وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن قوماً من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر! فقال: لقد نسكوا أعجمياً! وأنا فقد أعجبني أن أرى في علماء السودان من يخرج عن الأغراض الجافة المتزمتة إلى أغراض أخرى مقبولة طيبة، قرأت للشيخ أبي القاسم قوله:
سلاها فهل قلبي سلاها وهل جرى ... حديث سواها في فمي ولساني
ألا إنني قد ضقت ذرعاً وشفني ... صدود الذي أحببته فجفاني
وقوله:
ما على عشاقها من حرج ... إن حب الحسن في الطبع كمين
وعدتني وصلها فازداد ما ... بي من الشوق إليها والحنين
إلى أشعار أخرى في وصف المحبوبة، والشوق إليها، والحديث عنها، والحنين إلى وصلها والتمتع بها.
وقديماً مرت سكينة بنت الحسين على عروة بن أذينة - وكان على زهده وورعه وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره - فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق وأنت تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحث به ... قد كنت عندي محب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط. . . فليكن. أليس ابن قتيبة يقول، وهو يتحدث عن الشاعر العربي وابتدائه بالنسيب ليميل نحو القلوب، يعلل ذلك فيقول: لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام).
ولكن، هل يمكن أن نعتبر النسيب فيشعر المدرسة القديمة التي نتحدث عنها، نسيباً معبراً عما في النفوس، حاكياً عواطفها وأحوال الوجد والصبابة؟
وقد سبق أن أجبت عن مثل هذا السؤال، فقلت: إن هذا النسيب نسيب تقليدي أكثر منه معبراً عن واقع الحياة، ذلك أن الشعراء في ذلك العصر حبسوا أنفسهم في الشعر القديم، وأطلوا على الحياة من نوافذه، فكانوا صورة منه لا من حياتهم، وقلدوه في الغرض والطريقة، وإن كان البون بعيداً في الديباجة والمعاني. ونحن نضع بين يدي القارئ صورة