طرفه في ذلك الأفق البعيد، وكان الليل يتلفت ويسرع في الهروب، وقد ألح عليه الصبح مسرعاً في المسير. . . فاستجلى (عمير) في هذا المنظر الرائع معاني الحق والحرية. . . تطارد الباطل والعبودية. . وراقه أن ينهزم الظلام أمام النور، ويتواري الليل أمام النهار. . . واستبشر بهذا المنظر الساحر. واعتبره فأل خير ويمن وفتح كبير. . . ورفع يديه الصغيرتين نحو السماء، وتتم لسانه بأحلى آيات الدعاء. . . وهبت إذ ذاك نسمة رقيقة عطرة، شرحت صدره، وداعبت وجهه وشعره، وكانت تلك لحظة قدسية مباركة، رق فيها قلبه وصفت نفسه، وغمره شعور ندي بأسمى معاني الإيمان. فذرفت من عينه عبرة غبطة وخشوع، وسبح في بحار من الأخيلة الجميلة والأماني العذاب. . . ولم يوقظه من سبحته تلك إلا صوت أمه تناديه: هلم يا عمير فأسبغ عليك وضوءك، وتهيأ لصلاة الفجر، فقد نادى المؤذن بالصلاة والفلاح. . .
وخف عمير إلى نداء أمه، وتوضأ ثم أخذ سمته نحو المسجد مشيعاً بنظرات عطف وحنان من أمه الرؤوم. ولم يكد يمشي بضع خطوات حتى ترامى إلى سمعه دعاء أمه له، بأن يكلأه الله ويرعاه، فاطمأن لهذا الدعاء وفرح به، وسره أن يكون هذا الدعاء آخر ما يسمعه من أمه، وقبل أن يبتعد عن البيت التفت نحوه وألقى عليه نظرة أودعها كل ما في قلبه من حب وحنان نحو أمه وأبيه. وحدثته نفسه أنه ربما كانت آخر نظرة يلقبها على هذه الديار، وبعدها يفارق هذه الدنيا إلى دار الخلود، فترقرت في عينه عبرة حرَّى، كانت دمعةَ الوداع. وما قارب المسجد حتى التقى بصاحبيه أسامة ورافع، وقد دلفا إلى المسجد، بعد أن التقيا في بعض طرق المدينة، فما إن رآهما حتى افتر ثغره عن ابتسامة جميلة، وصافحهما مسلماً، وكانت الدمعة لا تزال حائرة في عينيه، وحدثهما عن تلك الساعة المباركة في السحر، وعن ذلك المنظر الفاتن الجميل، وعما أثار في قلبه من مشاعر، وأوحى إليه من معان وبشائر. .
وذهبوا جميعاً إلى المسجد يؤدون الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وطدوا العزم وعقدوا النية على أن يخرجوا معه في غزوته، يضربون بأيديهم اللينة، وسواعدهم الرقيقة هامات المشركين، وقد كان يشعر كل واحد منهم أنه بطل كبير وأنه المسؤول وحده عن هذا الدين، ذلك أنهم لم يرضعوا أفاويق الدعة وينشئوا في الحلية والدلالة. . . إنما