فرأيت في أطراف فلسطين وعلى حدود جاراتها المضيافة ثلاثة أرباع المليون من كرام العرب يعيشون في الخرائب والملاجئ عيش الحرمان، يقتاتون السوف، ويكابدون الجوع والخوف، وينظرون إلى رياضهم الجنية تعيث فيها الذئاب، وإلى حياضهم الروية تلغ فيها الكلاب، فلا يملكون لأنفسهم إلا عبرات تتحدر وزفرات تتصعد، ومجلس الأمن ووسيط هيئة الأمم ولجنة التوفيق ودول الديمقراطية يستطعمون الواغل لصاحب المأدبة فلا يطعم، ويستعطفون الدخيل على مالك الدار فلا يعطف!
وثقل الأسى على أعصابي المضطربة فغلبني النوم. ولا أدري بعد كم دقيقة أو ساعة من رقادي دخل علي في مكتبي صديقي المغفور له إسعاف النشاشيبي في هيئة مبذوءة وثياب رثة: بذلة من الصوف المهلهل لا لون لها من البلى ولا معالم، وطربوش كلبدة الفلاح دارت عليه لفافة من بقايا قميص ممزق، وحذاء غليظ من أحذية الجيش لا رباط له ولا جورب. . . فقلت له وأنا لا أصدق عينيَّ ولا أملكهما: ماذا صنع الدهر بالثريِّ السخي المترف المتنطس يا إسعاف؟! فقال في تسليم واستكانة: هو ما ترى! رأيت بعيني حي (الشيخ جراح) يٌستباح ويجتاح، وداري العربية تحتلها كتيبة يهودية، ومكتبتي الحبيبة تنتقل إلى الجامعة العبرية، وضياعي الخصيبة في يافا يحول ريعها إلى تل أبيب! فلما رأيتني أصبحت لا دار ولا أهل ولا ملك ولا مال، هاجرت مع المهاجرين، ولجأت إلى مصر مع اللاجئين. وقد كنت تقول لي وأنا أوثر (الرسالة) بجهدي الضئيل: لولا غناك لأعطيناك. وهاأنذا اليوم أصبحت فارغ الكف والقلب من المال والأمل، لا في الجيب ولا في الغيب! ثم بكى فبكيت؛ وسمع نشيجي بعض أهلي فأيقظوني، فاستيقظت وأنا احمد الله أن مات، قبل أن يقاسم وطنه وقومه هذه النكبات!