ذاهب إلى البحر) ويقول الآخر (أبتاه، إني راحل إلى الهند)، والثالث (إني مسافر لأبحث عن الثروة أينما استطعت) ويقول الرابع (أبتاه، إني مرتفع إلى السماء!) وهكذا يفترقون وقد فاضت دموعهم في غزارة. ويذهبون، كل منهم في طريق من هذه الطرق. ويرتفع الطفل الصاعد إلى السماء، يرتفع في الهواء الذهبي، ثم يختفي.
وكان حينما يحدث مثل هذا الفراق، ينظر المسافر إلى السيد فيشاهده يتطلع إلى السماء فوق الأشجار، حيث يأخذ النهار في المضي، وتبدأ الشمس في الغروب. ويلاحظ شعره وقد اشتعل شيباً.
ثم ساروا يقطعون رحلتهم دون أن يستريحوا لحظة. فقد كان من الواجب عليهم أن يكونوا منشغلين. وهكذا أقبلوا على طريق أكثر حلكة من غيره، واندفعوا في رحلتهم، عندما وقفت السيدة وقالت (زوجي، أنهم ينادونني).
فأصغوا فاستمعوا إلى صوت آت من بعيد يقول (أماه، أماه!) كان صوت الطفل الأول الذي قال أنه صاعد إلى السماء. وقال الأب (لا تذهبي الآن، أرجوك، إننا على وشك الغروب، لا تذهبي الآن، أرجوك). ولكن الصوت نادى (أماه، أماه) دون أن يبالي به ولا بما أصبح عليه السيد من بياض الشعر وغزارة الدمع.
وعندئذ قبلت الأم زوجها وهي تبتعد عنه، وتنسحب في الطريق المظلم، وتحرك ذراعيها ولا يزالان ملتفتين حول عنقه. وقالت له (يا أعز أعزائي، لقد نادوني، وها أنذا ذاهبة) ثم رحلت، وظل الزوج والمسافر وحيدين.
واستمرا في سيرهما حتى اقتربا من نهاية الغابة. فاستطاعا أن يشاهدا الشمس تغرب أمامها بأشعتها الحمراء خلال الأشجار.
وبينها كان المسافر يشق طريقه خلال الأفنان، إذ فقد الرجل. ونادى، ثم نادى دون مجيب. وأخيرا سار وحيدا حتى أقبل على رجل كهل جالس على شجرة ساقطة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الكهل في ابتسامة وديعة (إني أتذكر دائما. أقبل وتذكر معي!).
وهكذا جلس بجوار الكهل وجهاً لوجه يشاهد غروب الشمس الصافية وجعل يتذكر، فأقبل عليه أصدقاؤه عائدين في هدوء، ووقفوا وأحاطوا به. الطفل الجميل، والصبي الحسن الطلعة، والشاب العاشق، والأب والأم والأولاد. كانوا كلهم حوله. ولم يفقد منهم أحداً.