لبعض أصدقائي الأوفياء، وأقربائي المحبوبين الذين أبى الدهر أن يؤنسني ببقاء أوراقهم على الغصن الذي أورقنا جميعاً عليه، فأختطفهم وأرسل عليهم ريحاً صرصراً جعلتهم كهشيم المحتظر!
وبكيت لأول مرة في حياتي بكاءً مراً - وما عهدت نفسي بكاء ولا مدامعاً - لأني فكرت في العالم المجهول الذي سيق إليه أحبابي وأصحابي، وخشيت ألا يجدوا فيه روحاً وريحاناً، لا لأني في شك من الخلود، ولكن لأن بعض أولئك الأعزة الذين فارقوني لم يتح لهم من الزمن ما يستعدون معه من الرحيل، ويتأهبون خلاله لسفر طويل، إذ جفت أوراقهم واصفرت بعد اخضرارها بقليل. . . وكان (محمود) أخر من أسرع إليه الجفاف من أصحابي؛ ولقد والله كان انضرهم وجهاً وأحلاهم مبسماً، وأنداهم حديثاً، وأنسهم مجلساً، وأرقهم شعوراً، وأنبلهم عاطفة، وأطهرهم قلباً، وأصفاهم نفساً، وأعفهم يداً، وأصدقهم لساناً، وأكثرهم تواضعاً؛ وكنت أحسبه أطولنا عمراً، وأنساناً أجلاً، وأرغدنا عيشاً لكن الموت عدا على (محمود) وهو في ربيعه الخامس والعشرين - ما يزيد عني سوى عامين - فدفنه كنزاً ثميناً، ودفن معه آماله الكبيرة. . . فكيف أبقى صامتاً لا أرثيه، أم كيف أضل جامد العين فلا أبكيه؟!
وفيما أنا مستغرق فيما يساورني من الأفكار، هزت الريح الشجرة كرة أخرى، فتناثرت أوراق تتري، فأسرعت أفتح لها حجري كأني وددت لو أتلقاها وأحول دون سقوطها على الأرض ووطئها بالنعال، بيد أنها آثرت جميعاً أن تتقبل نهايتها وتقع على الأرض إلا ورقة واحدة كان نصيبها حجري، وانحنيت لألتقط أخواتها وأنا شاعر بأني أحبي أنفاساً توشك أن تموت، وإذا بالورقة نفسها تسقط أثناء انحنائي فأسحقها بقدمي على غير إرادة مني، فعدلت عن التقاط الأوراق الباقية، وأيقنت أن لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأننا لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ولا نملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأننا أوراق في مهب الرياح، لا ندري كم تبقى نضرتنا، ولا نعلم متى نصفر فنموت!
وحينئذ فاضت معاني الإيمان في قلبي، واستطاعت هذه المعاني على سذاجتها وبساطتها ونفورها من التعقيد أن تلهمني الصبر، وتوحي إلي الرضى والسكينة، وهي تهمس في أُذني آية خالدة صورت (قصة الحياة) أروع تصوير: (وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء