مما يدر حولي شيئا. وغبرت ساعة فما عن شواغل نفسي غير رجل يطلب صدقة. وفي مقاهي القاهرة مفزعات تغضي عنها الحكومة فتنطلق من مكامنها في وضح النهار لتزعج الآمن في جلسته وتقطع خواطره وتؤذي نفسه. . . مفزعات منها ماسح الأحذية وأوراق النصيب و. . والشحاذ. ليت الحكومة تعرف أن القهوةمثابة يستجم فيها المرء من عناء أو يستريح من نصب، وليتها توقنبأن هذه الزمر من المفزعات وصمة في جبين البلد لا تستطيع يد أن تمتد إليها فتمحوها إلا يدها هي، ليتها تعلم، ليت. . واستقر الرجل إلى جانبي لا يريم فرفعت بصري إليه أنظر وعجبت أن رأيت أمامي شحاذاً في ثوب العيد وسمته، لعله هو أيضاً أن ينعم بفرحة العيد وسعادته! وهو رجل قد تخطى عمر الكهولة فبدا عليه أثر الضعف والهزال، ولكنه تجمل للأيام فهو حليق الذقن مفتول الشارب تفوح منه رائحة خفيفة لا يتنشاها إلا من أصاب قوة في حاسة الشم، وهو يرتدي بذلة إفرنجية أنيقة قريبة عهد بالكواء، وقميصاً أبيض ناصع البياض يزينه رباط رقبة أسود جميل، ويتألق على رأسه طربوش أحمر قان، وحذاؤه لامع نظيف. ووقف الرجل بإزائي في أدب يسأل في هدوء ويطلب في خضوع رغم أنه شديد الإلحاح صفيق الوجه. وراعني أن أرى هذا الرجل في زيه وهندامه يتكفف الناس في غير حياء وخجل، ولكن نفسي حدثتني قائلة (لعل ما ترى بقية عز باد من زمان!) فحبوته بعض عطفي ثم صرفته في لين. ونظر إلى النادل - وهو يعرفني منذ سنوات - نظرة ذات معنى وابتسم حين رآني أنفح هذا الشحاذ الأنيق بشيء من المال ورابني ما رأيت من النادل. فقلت لعل في الأمر حادثة أو متعة فناديته أريد أن أكشف عن الخبر، فقال:(أفلا منحت دراهمك - يا سيدي - لفقير تقتله الحاجة، أو مسكين تلح عليه الفاقة) ولكن الرجل يسأل الناس فما باله؟ وإني لأراه جميل الهيأة، أنيق المظهر، يسري في عروقه دم الشباب، وإن بلغ سن الشيخوخة؟) قال:(إن له حديثاً). قلت:(هات). فقال: هذا الرجل واهي الرجولة، ساقط الانسانية، وضيع الكرامة، وهو شحيح النفس، كز اليد، بخيل الجبلة يقضي نهاره بين مقاهي القاهرة يتكفف الناس في أدب ويسألهم في ذوق، يموه عليهم بخضوعه ويزور بمسكنته، يتخذ من ذلك مهنة يزجى بها الفراغ، وعملاً يقتل به الوقت، فلا يأوى إلى داره آخر النهار أو الليل إلا وقد امتلأت يده وفاض جبينه، ثم هو يحرم نفسه من كل ما أصاب فيقنع باللقمة ويرضى بالكسرة. . .