تلك الجارية الحسناء التي طالما حلم بالوصول إلى مثيلاتها بعد أن مل امرأته التي أقعدها كبر السن عن تمهيد فراشه والقيام على خدمته. وأما دلامة فهو أصدق مثل للولد الخبيث الذي لا يرعى حرمة أبيه ولا يقيم له وزناً، وإنما يسترسل في إيذائه وتعذيبه، فيوافق أمه الماكرة على أن ينال حاجته من جارية أبيه كأنه لا يجد خيراً من هذا ليبر أمه. ثم نراه أمام الخليفة المهدي يدافع عن نفسه مضحكاً، فهو لم يقض تلك الحاجة مع الجارية الحسناء إلا بعد أن قضى أبوه مع أمه أربعين سنة، ويصف مع ذلك أباه بأنه أصفق الناس وجهاً. فما أهون - بعد هذا - جميع الأوصاف التي يلصقها ابن بأبيه! وأما أم دلامة فيالها من عجوز شمطاء، سليطة اللسان، خبيثة النفس، عرفت الأسلوب الذي تستطيع به إلزام زوجها بما تشاء، فاستعملت ولدها في إيذاء أبيه. وهكذا ترى أن بيت أبي دلامة جمع أنواع الدعابة وأسباب الطرافة؛ في الأب والأم والولد، وكأنما خلق الله كل واحد من هؤلاء الثلاثة لكي ينسجم مع الآخرين، ولقد كان الانسجام من توثق العرى بحيث أنه جعل ما يبدو من أي واحد منهم مفهوماً للآخرين لا يستغربه أحد منهما وإن أضحك الناس زمناً طويلاً. ولكي يتضح لك هذا الانسجام العجيب بين هؤلاء الثلاثة فتعرف مقدار ما انطوت عليه أنفسهم من خبث، تأنى على ذكر قصة جديدة فيها بعض ما تريد.
جاء دلامة يوماً إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته جلس فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إن شيخي - كما ترون - قد كبرت سنة، ورق جلده، ودق عظمه وبنا إلى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقى قوته، فيخالفني فيه. وأنا أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم فيها صلاح لجسمه، وبقاء لحياته، فأسعفوني بمسألته. فقالوا: نفعل حباً وكرامة. ثم أقبلوا على أبو دلامة بألسنتهم وتناولوه بالعتاب حتى رضى وهو ساكت، فقال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية. فقالوا له: قل. فقال: إن أبي إنما يقتله كثرة إتيان النساء فتعاونني عليه حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء، فيكون أصح لجسمه، وأطول لعمره. فعجبوا من ذلك وعلموا أنه إنما أراد أن يعبث بأبيه ويخجله حتى يشيع ذلك عنه فيرتفع له بذلك ذكره، فضحكوا منه. ثم قالوا لأبي دلامة: فأجب. قال: قد سمعتم أنتم وعرفتكم أنه لن يأتي بخير. قالوا فما عندك في هذا؟ قال قد جعلت أمه حكماً بيني وبينه