للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذلك أبعده). هذه العبارة تشير في صراحة إلى أن زرياباً انشأ بالأندلس في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ما يصح أن نسميه بلغة الوقت الحاضر معهداً لتعليم الموسيقى الشرقية.

ولم يكن زرياب أقل ابتكاراً في شؤون الحياة اليومية منه في مجال الموسيقى والفن، وهذا محل العجب من سيرته. فقد ابتكر لأهل الأندلس ألوانا من الطعام فاستطابوه ونسبوا بعضها إليه، وعلمهم أن يشربوا من آنية الزجاج الرقيق بدلاً من آنية المعدن، وهو أول من اجتنى لهم البقلة الشهية المعروفة بالهليون وكانوا لا يعرفونها من قبل. وعلمهم أن يبسطوا فوق ملاحف الكتان أنطاع الأديم اللين، وأن يبسطوا سفر الأديم فوق الموائد الخشبية فذلك أنظف لها وآنق لمنظرها. وعلمهم أن يلائموا بين ما يلبسون وبين فصول السنة الأربعة، فيتدجوا من الخفيف الأبيض صيفاً إلى الثقيل الملون شتاء، ولفتهم إلى أنواع من الطيب والعطر لم يلبثوا أن أقبلوا عليها وفضلوها على ما كانوا يتعطرون به من قبل، كما علمهم كيف ينظمون شعورهم تصفيفاً وتدويراً وإرسالاً.

لا ندري بالدقة متى توفى زرياب والغالب أن وفاته كانت في إمارة الأمير محمد عبد الرحمن الأوسط (٢٣٨ - ٢٧٣هـ) وكما رزق زرياب الحظوة عند أهل الأندلس في حياته فقد رزقتها ذكراه عندهم بعد مماته. ذلك بأن مذهبه في الغناء وما رسمه لهم من أسلوب المعيشة ظل باقياً متوارثاً فيهم حتى آخر أيامهم. فلما انتهى أمر الأندلس وخرج من تبقى من أهلها إلى بلدان أفريقيا الشمالية أنتقل إليها بانتقالهم مقدار غير قليل من صناعة زرياب وآدابه. يقول ابن خلدون عند ذكره زرياباً (فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمأ منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بأفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها) ويقول المقري (وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الآداب ولطف المعاشرة وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوما به).

<<  <  ج:
ص:  >  >>