رأى بالأمس وزير معارفنا أن يصون بنات الأمة بما يصون به بناته، فصاح به دعاة الحرية من كل جانب، وأخذه هزئ النساء والرجال على أساليب شتى. وما تجد في بلدنا داعياً يملك عقله وقلبه فيدعو إلى ما يراه حقاً وخيراً إلا كان أحدوثة الساخرين والساخرات واتخذته الصحف تفكهة لقرائها وضُحْكة.
وقد كتب كاتب من كبار كتابنا يسمى هذا الوزير وزير التقاليد ويسخر به، ويتحدث عن الحياة وقضيتها، ويتكلم عن الأيام والساعات والدقائق والثواني، وهي ماضية سراعاً، ونحن ماضون معها لا نستطيع لها رداً. فلا نستطيع لأمر وقفاً ولا تغييراً
لست أدري فيم عِلمنا وفِكرنا إن حَملَنا تيار الساعات والدقائق راضين بكل واقع مستسلمين لكل حدث. إنما يذهب التيار بالأجسام الجامدة أو الميتة، فأما الحي فلا يستسلم للتيار وبه قوة، ولا يرضى الغرق وفيه رمق.
إن علينا أن نسيطر على الخليقة ونسخرها كما نشاء جهد طاقتنا، وإن علينا أن نسيِّر الحياة بعقولنا وعلومنا، وأن نقهرها لإرادتنا ما استطعنا. فما هذه الدعوة إلى الاستسلام بل المضيُّ إلى الموت؟ وما هذا الخضوع للعبودية باسم الحرية؟
إن الاستعباد قبيح في كل صوره؛ ولكنه أقبِح ما يكون حين يصيب النفوس، فتخضع للواقع، وتحتج بسير الزمان. إن الحر يفكر ويقول ويفعل كأن إرادته من قضاء الله، وجهادَه من قدرة الله، ساخراً بسلطان الزمان والمكان - ليخلق تاريخاً، ينشئ جيلاً، ويغير الزمان والمكان. وهل خلد في تاريخ البشر إلا من تصدى للباطل يدمغه بالحق، وللشر يغلبه بالخير، وللفساد يمحوه بالصلاح؟ وهل دعا نبي أو نادى مصلح إلا بصد التيار الجاري، ورد الأحداث السائرة، وتغيير السيرة الفاسدة.
إن الذي يربح نفسه وعقله من تكاليف الإصلاح ومشقة الجهاد يساير الزمان، ويحتج بالمكان، ويمضي مع الماء أو الريح؛ ولكنِ لله خلقاً يحملون كل عبء، ويعانون كل مشقة، ويستصغرون كل هول، ويسخرون من كل سخرية، ليثبتوا بالحق وفي الحق على مضى الأيام والساعات والدقائق والثواني كالطود في مجرى السيل، والحق في معترك الأباطيل.
يا أخي الزيات: إنها لفتنة، وإنها لمحنة. وسيمضي الأحرار لا العبيد، يقولون ويفعلون ويجاهدون حتى يبلغوا غايتهم أو يقضوا نحبهم على السبيل قاصدين وعلى الله متوكلين.