أحيائها، ويغشى جميع أوساطها، وينغمر في عبابها المصطخب، وحواسه المتفتحة المرهفة دائماً تتصيد الأطياف الخفية، وتسجل الصور الظاهرة، وتلتقط من الدقائق ما يغيب عن أعين الباريسيين التي اعتادت النظر وأعين المحترفين التي كلت من التحديق.
هناك وجد الشاعر بين يديه ما يجذب بصره الذي كان شارداً إلى الأفق البعيد، وجد ما يسترعي حواسه كلها، أشياء جديرة بأن ينظر إليها ويتأملها ويطيل تأملها والنظر إليها، أشياء طريفة لاحظها وعلمته كيف يلاحظها، أو لعلها أشياء عادية مبتذلة يهملها سواد الناس ولكن ملكات الشاعر فيه قد تنبهت إلى روعتها وطرافتها وامتيازها. ومن هنا كادت صور باريس ومفاتنها ومآسيها أن تصبح مادة جميع قصصه فيما بعد، ومادة (أقاصيص يوم الاثنين) بوجه خاص.
ليس إذن أفضل للكاتب الذي يريد رسم طبيعة الحياة من أن يحظى، قبل أن يخوض غمارها، بخيال خصب وشعور خصب ونحن نحس اليوم أن نفس ألفونس دوديه التي حرمت هناء الطفولة وأفراح الصبا، فباتت تنشد السعادة والحنان أحلاماً عريضة يبسطها لها الأمل ويوشيها الخيال ويحدوها الشعر، ما زالت ترفرف على أقاصيصه، تضيف إلى دقة النظرة هزة التأثر، وتؤلف من جزيئات الواقع وتفاصيل الحياة المتناثرة هنا وهناك صوراً فريدة صادقة، لا يدخل في نظمها من صنعة إلا سحر الاختيار الساذج، ولكنها لا تحتاج إلى أكثر من ذلك لكي تثير فينا هذا الشعور الغزير المتدفق الخيال النزق من صميم الواقع والملموس. . .
ولقد كان دوديه يعي عن نفسه هذا كله، ويرى في الشعار الذي اتخذه جوته - (الحقيقة والشعر) - حكمة غنية تشمل الحياة الإنسانية بأسرها.