على ضفة النيل، ولم أحاول أن أستجيب إلى شيء مما حوله من جلبة الأشياء وحياة الأحياء، وخلفت من ورائي في نظرة عابرة كل هذه الحركة التي يتحرك بها هذا الشارع الأنيق وهذه الزينة التي يزدان بها. . . ولم يكن من بأس أن أخاف عن عادة الناس، هنا في رأس البر، حين يقسمون وقتهم قسمة مناصفة بين البحر والنهر. . . فإذا كان الضحى لجئوا إلى البحر، وأخلد بعضهم إلى رماله وانتهى بعضهم يصارع أمواجه. . . وإذا كان الأصيل لجئوا إلى النهر فانسابوا على شاطئه، عين إلى صفحته الهادئة، وعين إلى الصفحات الأسيلة التي لوحتها الشمسفي الصباح وخففتها الأصباغ في الأصيل.
وجزت طريقاً من هذه الطرق المتعارضة وحدي. . . كنت أشبه بالضال أو كذلك خيل إلى. . . فقد كانت الأنظار التي تمر بي كأنما تتحدث إلى، بعضها يتحدث مشفقاً علي وبعضها هازئاً مني. . . ولكني كنت أنا مشفقاً عليها دائماً رائياً لها أبداً. وإلا فكيف يخلي هؤلاء الناس بينهم وبين هذه اللحظات التي لا تنسى من عمر الشمس. . . كيف يبيحون أن يجلسوا إليها أكثر النهار يستمدون منها القوة ويستجدون العافية ويتقلبون في مهاد من أشعتها الحلوة، حتى إذا غلبها على أمرها الفلك الدوار وانحنت تودع هذا الشاطئ انصرفوا عنها. . . لم يكن في وداعها إلا ثلاثة: شاعر حالم، ومحب مستخف، وحارس كهل من حراس الشاطئ ينتظر موعد الصلاة؟!
ولكن ما ينفع العجب؟. . . وهل هذا إلا صورة من وفاء الناس للناس، يتجاوز الأحياء إلى الأشياء.
. . . وانتهيت إلى البحر من أقرب طرقه - وكل الطرق إليه قريب - فأنا مع هذا القرص المتوهج الذي يبقى من الشمس على ميعاد، في كل يوم، لا أخلفه إلا مكرها على إخلافه، ولا أنصرف عنه إلا أن يحول بيني وبينه ما لا قبل لي بدفعه، فإن فاتني أن أراه عشت معه أتخيله، حتى تطويه لغة الأفق في لحن سماوي من الألوان، حزين.
- ٣ -
ورأيتني أشهد الشمس الهاوية في استغراق، وغشى عيني دمع ثر، كأنما استعار من الموج تدفقه. . . ولم أحس لهذه الصورة التي أراها كل يوم مثل الذي أحسسته لها اليوم. . . كنت أحس بعض هذا الاستغراق غير أني لم أكن أضل ذاتي. . . كان حاجز رقيق أو صفيق