للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التي انبثق الفن من بينها. فكانت تركن حيناً إلى الحقائق التاريخية، فإن انتقدتها وفقدتها عمدت إلى خيالها، وتصورت الأسباب التي نشأ عنها كل فن من الفنون. ولكن يبدو أن الكاتبة ليس لها ولع كبير بالموسيقى، فقد اكتفت بأن ألمعت إليها في عجالة يسيرة. وقد صورت الكاتبة حياة الإنسان الأول، بل صورت الحياة الأولى كلها، وكيف كان العالم، ثم كيف تطولت فيه الجبال الشم، وكيف انفرجت الأرضون فيه عن البحار والمحيطات؛ ثم تنتقل بعد ذلك إلى الحيوانات وبدء خلقها، وكيف تشكلت كل منها لقوائم الحياة التي تعيش فيها، ثم كيف جاء الإنسان هذا وتسلح بعقله ليقابل الأسلحة التي سبقه بها الحيوان الذي تقدمه في الظهور، واستطاع أن يشكل نفسه بما يبقى عليه حياته. ولكن الكتابة تربك أن سلاح الإنسان كان أفتك وأشد قتلا، وأنه به استطاع أن يعيش، ويصل إلى ما هو عليه يتتبع الكتاب ما أحدثه هذا السلاح من تغير العالم، وتظل تتابعه في رشاقة وخفة، حتى تصل به إلى منتهاه، فترى الكاتبة وقد هالها ما فعل السلاح من أعمال مجيدة، ثم هي تقف إليه رانية إلى مستقبله في خشية؛ فتراها تحذره مغبة التقدم إذا كان إلى شرها وقاء. وترى الكاتبة تتساءل عما سيفعله الإنسان بعد أن هيأ لنفسه هذا الفراغ العريض، وبعد أن أرسل الآلات تأخذ مكانه في كل عمل يقوم به. تتساءل ترى أيرد الجيل الحاضر جميل الغابر. . . يرده بالخير والبركة على الأحفاد، أم تراه سيتقدم ليقذف كل عود يستوي إلى أتون من الظلم، فينصهر الشاب، وتنحطم الآمال، وتتواكب الظلمات من عقول آنسة لاهم لها إلا الخراب والتدمير. تخاف الكاتبة، فتناشد قومها - والعالم كله قومها - أن يمثلوا فراغهم بالفن، فهو سبيلهم إلى التحرر من الحيوانية، وهو سبيلهم إلى التحرر من الآلية، وقمة الرقي إذا ارتفاعها الإنسان فقد ارتقى.

هكذا تفكر كاتبة الغرب، فهل قرأ الغرب أفكار ابنته؟ وإذا كانوا، أتراهم بها سائرين؟ إلا فليتقوا الله في إخوانهم من بني الإنسان. وليتقوا الله في آبائهم العباقرة. وليتقوا الله في هذا العالم الذي نعيش فيه.

ثروت أباظة

<<  <  ج:
ص:  >  >>