الملتهبة أكثر مما يرى. . . . فهو لم يأخذ (ميدي) في اللحظة التي قتل فيها أولادها، ولكنه رسمها قبل لحظات حين كانت تتنازعها عاطفتا الأمومة والغيرة. وإنما نحن نتنبأ نهاية المعركة، ونحن نضطرب إذا نراها في ثورة غضبها ونقمتها. ومخيلتنا قد تذهب في مسارب أبعد غوراً قبل أن يحملنا الرسام على النزول في مساريه في مثل هذه الساعة الهائلة. وبهذا وحده نرانا أمام هذا (البقاء) الذي يفرضه الفن لحيرة هذه الأم كمن أرتطم بشيء. إذ نريد أن يكون الوضع في الطبيعة كهذا الوضع، حيث لا تنتهي معركة الأهواء في النفس، وإذا قدر لها الانتهاء انتهت ناضجة حتى يستطيع الزمن وإدمان التأمل أن يضعفا الغضب ويخففا غرب الحدة، ويحققا انتصار عاطفة الأمومة. وحكمة هذا الرسام قد رفعته مقاماً عالياً، ووضعت مرتبته فوق مرتبة رسام غيره مجهول، إذ أراد هذا المجهول أن يرسم (ميدي) وكان غير فطن؛ فرسمها في ثورتها العنيفة، فأعطى هذه الثورة الحالية من صفة البقاء ما يتجاوز الحد الطبيعي، وهنالك شاعر نظر إلى هذه الصورة وقد انتقدها بعقل صائب، وناجى الصورة:(هل أنت ظمأى إلى الأبد لدماء أبنائك؟ هل هنالك ولد جديد وابنة جديدة، تجدين من أجلهما غضبك وتصبين سوط نقمتك؟ إلا فاذهبي إلى الشيطان وأنت بهذه الهيئة المرسومة).
والصورة الثانية صورة (اجاكس الغاضب) لم يمثله الرسام في غضبه العنيف حين كان يُقيد البهائم ويقتلها بدل الناس، وإنما رسم هذا الرجل بعد هذا العمل الوحشي وقد أنهكه التعب وغلب عليه الوجوم وهو يتأمل في عاقبة عمله. . هذه الصورة تمثل حقاً (اجاكس الغاضب) لأنها تمثله في سورة غضبه، ولكن لأنها مثلته بعد غضبه، ولأن الناظر يدرك بواطن هذا الغضب من وراء الوجوم الذي يراه مرتسما على وجهه، واليأس البادي على ملاحمه؛ ألا يرى الناس العاصفة إذا رأوا الخرائب التي دمرتها والجثث التي بعثرتها على التراب؟