وإذ كان الشيخ البشري موظفاً حكومياً، فقد قيدته الوظيفة الحكومية بأمراس من حديد، واشتد شعوره بالقيد الحكومي بعد أن عين قاضياً شرعياً، فما كان يستطيع الكتابة بتوقيعه الصريح؛ بيد أنه وقد خشي أن تنسب مقالاته إلى غيره من الكتاب، كان يعمد إلى مطالعة كل مقال يكتبه على ملأ من الصحاب ممن يتذوقون الأدب، فإذا دفع المقال للنشر وطالعه الناس من مصبحهم في صحيفة سيارة، أدركوا أن هذه الجزالة اللفظية وهذا الترف البياني وهذا الترصيع الإنشائي، كل أولئك من صنعة عبد العزيز البشري!
ورسائل (في المرآة) التي كانت تنشرها صحيفة (السياسة الأسبوعية) قبل خمسة وعشرين عاماً، فترن رنينها، وتحدث دويها، وتتصل رجفتها الأدبية أسبوعاً بعد أسبوع لم تكن ممهورة بتوقيع عبد العزيز البشري، ولكن قارئاً من القارئين لم يكن لينسبها لغير عبد العزيز البشري.
وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، ولكنها تتقاصر حينما يمزح أو يداعب. ولما أراد أن يسوي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً أذكى النساخين في المكتبات العامة فجمعوا له قدراً صالحاً مما كتب، فقد كان - أحسن الله إليه - لا يحتفظ بشيء مما يكتب، ثم جعل ينخل مقالاته نخلاً ويغربلها بغربال دقيق، حتى استوى له كتاب (المختار) في مجلدين. ومن حق التاريخ على الشيخ البشري أن نقول إنه لم يحرف في مقالاته شيئاً، فهي كما نشرت لوقتها في الصحف لم يغير منها حرفاً.
وقال البشري الشعر في شبابه الأول، وكان ينشر قصائده في جريدة (الظاهر) التي كان يصدرها المرحوم محمد أبو شادي بك، هجواً في المغفور له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد تشييعاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكن قبل بضعة عشر عاماً أسمعنا قصيدة باكية قالها رثاء في صديق له مات وهو في مشرق العمر وريق الشباب، ثم لم يقل بعدها شعراً إلى أن وافاه الأجل المقسوم.
وبعد وفاة الشيخ البشري جمعت إحدى دور النشر مقالاته التي لم يضمها (المختار) وطبعتها للناس طبعاً أنيقاً فكان ذلك وفاء لذكرى أديب أجدى على الأدب الشيء الكثير، ولكن هذا المجهود الفردي لا يكافئ أدب البشري، فهناك قصائده في صحيفة (الظاهر)