للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وحمل الأمانة، فإذا برئت النفوس من المنافع، وتخلصت من الأطماع وتجردت عن الأهواء ثم آثرت الإيثار، اتصلت النفوس وائتلفت الأرواح، وهذه هي الصداقة في أعلى مراتبها، وأفضل صورها، وما ينبغي أن تكون عليه.

والصداقة فضيلة تأمر بها الأخلاق وتحث على توثيقها. وأفضل الأخلاق ما طلب صاحبها الفضائل لذاتها، ولأنها واجبة في نفسها كما ذهب إلى ذلك كانط الفيلسوف الألماني. فنحن نعمل الفضائل طلباً للمنفعة أو اللذة أو السعادة، وبذلك تخضع الفضيلة لغاية أخرى فينصرف المرء إلى تحقيق هذه ولو امتطى ظهر الرذائل وصورها في صور الفضائل. لذلك ينبغي أن تطلب الصداقة لذاتها، وحينئذ يحس المرء بلذتها.

والصداقة من أقوى الروابط التي يقوم عليها دعامة المجتمع، فإذا شاعت في أمة تماسكت، ثم قويت لتماسكها، ثم علا شأنها لقوتها، فتصدرت سائر الأمم لعلو شأنها والاعتراف بمنزلتها. وكان هذا هو حال الأمة الإسلامية في بدء نشأتها. وأنت تعلم أن الدعوة الإسلامية قامت على اثنين من الرجال، النبي عليه السلام، وأبي بكر، الذي سمي لصدق وفرط تصديقه بالصدق دلالة على المبالغة، فقالوا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وإذا أطلعت على سير الرجال من أهل الإسلام في عزة وعنفوانه، وفي أوجه وعلمه وسلطانه، يوم أن كانت أوربا تعيش على علوم الشرق وتعترف من عمرانه، رأيت أن الروابط بينهم قامت على الصداقة، وعلى التفاني والوفاء، رأيت أن الروابط بينهم قامت على الصداقة، وعلى التفاني والوفاء، وعلى الإخلاص والإثيار، والإثيار أعلى مراتب الصداقة. حكت كتب القدماء أن عشرة من المسلمين وقعوا جرحى في قتال في إحدى الغزوات، وكانت مع أحدهم شربة ماء لا تكفي إلا واحداً لتهبه الحياة، فآثر بها صاحبه ومات، وآثر بها الثاني صاحبه ومات، وهكذا حتى مات الجميع.

ونحن نرى أن الجماعة تحتاج إلى ترابط يربط ما بين أفرادها، وليست هذه الروابط مادية يمكن أ، ترى، فليس هناك حبل يربط بين فلان وفلان، ولو كانت الروابط حبالا لتقطعت وبقيت الصداقات الصادقة لأنها أوثق، ثم لا تبلى مع مرور الزمان بل تقوى على الأيام.

ومن المشاهد أن الشرق منحل الأواصر، كثير التنابذ، يشيع الحسد بين الناس، وتشتد العداوات الشخصية حتى لتشغل أوقات الناس وتصرفهم عن المصالح العامة. وهذه هي

<<  <  ج:
ص:  >  >>