فإذا انتقلنا إلى ميدان العلم، وجدنا صراعاً مثل هذا الصراع بين القانعين بعلوم الأزهر وتراث الأجيال السابقة، والمتطلعين إلى الغرب وعلوم المادية التي فتنت قلوبهم، وهزت نفوسهم، وينتهي أمر هذا الاختلاف إلى مدارس دينية وأخرى مدنية، ولا تزال قائمة إلى وقتنا هذا.
والدين نفسه لم يسلم من آثار هذا العهد، فقد نادى المنادون بضرورة التجديد، واستمسك القدامى بمبادئهم، فظهر على مسرح الحياة رجل الإصلاح جمال الدين ينادي بمبادئه التي تجعل الدين صالحاً لكل زمان ومكان. خشية أن يتقول المتقولون: إنه قد مضت أيامه وانتهى برهانه وقد حدث مثل هذا في السياسة والحضارة وقد تجد تصويره فيما كتب علي مبارك ومحمد المويلحي. وخليق بنا أن نذكر أن الوعي الاجتماعي والقومي قد بدت مظاهره واضحة جلية في النصف الثاني من هذا القرن فقد شعر الناس بمطالب المجتمع وأدركوا واجباته فهبوا يصلحون من أمره ويقومون من معوجه: فها هي ذي الأندية العلمية والأدبية، وها هي ذي جماعات الطباعة تلبي مآرب الناس بإبراز التراث العربي القديم ونشر العلم الحديث، وها هي ذي الشعوب تنادي باشتراكها في الحكم وإدارة البلاد، حتى لقد تحقق لهم بعض ما أرادوا في فترات من الزمان على يد (مدحت باشا) في الشام والعراق، وعلى يد (إسماعيل باشا) في مصر.
والأدب في جميع أحواله مرآة تعكس الأحداث، وصحيفة تسجل مواكب الحياة، إذا منح أهله الصدق فيما يقولون، ويسرت لهم المطالب التي تهي لهم القدرة على التصوير والتسجيل، بل هو خفقات النفس وخلجات الفؤاد ومشاعر المجتمع وآماله يذيع بها الموهوبون وينطق بها الأدباء المحسنون.
فهل - يا ترى - تضطرب الحياة ولا يضطرب؟ وتسير الأمور ويجمد؟ إن من يستقصى الأحداث في إعصار الزمن ويتتبع حياة الأدب في هذه الأحداث، يجد ارتباطاً وثيقاً بينهما. وهكذا وجدنا أحوال الناس في القرن التاسع عشر تنعكس على مرآة الأدب فيبدو فيه التقليد والتجديد، والجمود والتوثب؛ حتى هيئ له آخر الأمر أن يثب وثبته المعروفة، فلم ينته هذا القرن إلا وهو في ثوب جديد يختلف عن ثوبه القديم كل الاختلاف.
وقد مر على الشعراء قبل القرن التاسع عشر قرون أصيبوا فيها بتبلد الذهن وجدب