لطيفاً، إذ لم يتجاوز القلم واللسان إلى ما وراءهم العاطفة والشعور، ولا يزيد قائلهما إحساساً بهما عن إحساس الكتبة الذين يقتعدون منافذ المحاكم، ومكاتب البريد: إنما هي كلمات مرصوصة، وصور باهتة محفوظة، تحبر في الورق بريشة جف دهانها وحركتها يد مسخرة مأجورة، فجاءت لا تحمل من شخصية الفنان قليلاً ولا كثيراً.
وأطرف من هذا قصة شاعر آخر هو عبد الجليل البصري المتوفى سنة ١٨٤٤ فقد طلب منه أحد الشحاذين أبياتاً يتكفف بها الناس، وينال بإنشادها إحسانهم فكتب له:
يا ماجد ساد عن فضل وعن كرم ... وهمة بلغت هام السماك علا
يا من إذا قصد الراجي مكارمه ... نال الأماني وبراً وافراً عجلا
إنا قصدناك والآمال واثقة ... بأن جودك ينفي فقر من نزلا
جئنا ظماء وحسن الظن أوردنا ... إلى معاليك لا نبغي بها بدلا
لقد أضر بنا جود العداة وما ... أودى بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا
عسر وغربة دار ثم مسكنة ... وذلة وفراق قاتل وبلا
إلى آخر ما قال في ذلك.
ولست أرى في هذه الأبيات إلا ما يثير العجب، ويدعو إلى الإشفاق على الشاعر الذي أضاع وقته فيما لا يجدي ولا يفيد. وإنه ليخيل إلى أن الشاعر حينما أراد أن ينظمها كان يضع كلمة بجانب كلمة، ويتصيد الكلمات الأخرى ليتم الوزن، ولعلنا نحس هذا في الشطر الثاني من كل بيت.
والشاعر لا يجيد، ولا يتيسر له أن يجيد، إذا حمل على الشعر حملاً، وطلب إليه أن يقول في غرض لم تهتف به نفسه، ولم تستجب له عواطفه؛ وإنما يحسن ويصيب إذا انطلق على سجيته ولبى رغبة نفسه فيكون مثله عندئذ مثل الطائر يغرد إذا شاء ويتوقف إذا أراد، أو كالزهرة تعبق إذا ما اجتمعت فيها عناصر الشذا وتفتحت عنها الأكمام.
هذا وقد طغي على هذا العصر لون من الشعر شغل الناس عن كثير مما عداه؛ ذلك اللون إنما هو مدح، ولهذا أطلق على هذا القرن قرن المديح. نعم، إن هذا الغرض كان قد فتن الناس به منذ العصر العباسي الثاني ولكنهم تركوه إلا قليلاً في عهد المماليك والعثمانيين، يوم كدست سوقه وبارت بضاعته. ثم عادوا فمهدوه مرة أخرى في العصر الحديث