للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جيفة عفنة، وقطعة الحديد التي أكلها الصدأ، والخشب الذي نأكل عليه، والزرع الذي نلبسه ثياباً، والعصفور الوحيد الذي ينتقل من بيت لآخر، والنمل، والنحل، وصوت الباخرة، وضجيج الترام، وخلافها من المظاهر التي نراها ونسمعها في غدوّنا ورواحنا هي أجزاء حية في الطبيعة، والالتفات إليها في وضع جديد أتى به نظام حياتنا الراهنة وحضارتنا المعاصرة، لأدلّ على فهم الطبيعة من آلاف القصائد عن البحر والشفق والنجوم!.

ويجب ألا يفهم من هذا أننا ننكر على الشاعر أن يعنى بمظاهر الطبيعة الكبرى البدائية الجميلة أو المتوحشة، ولكن هنا يقل الإبداع، ولا يسلم الشاعر من الإسفاف والتفاهة، إلا إذا كان عملاقاً عظيم النظر فريد الشاعرية؛ كما إننا لا ننكر الالتفات إلى (المظاهر الرومانتيكية) التي يولع بها المهندس، ولكن هذا الالتفات وهذه العناية (بالربيعيات) يسهل فيه الغش، وتندر به الإجادة والتفرد؛ وهو أقرب طريق يلجه الأديب القليل الحيلة، المقلد الأسلوب، الذي لا تميزه شارة، ولا يستشف في تكوينه إصالة نظر أو عمق تفكير.

وكثير من شعراء أوربا المعاصرين اقتربوا من الموضوعات الرومانتيكية بأسلوب جديد، فبدلاً من الحديث عن سحرها وخوفها وهولها، تراهم يحاولون تفسيرها والنظر إليها من خلال شعور وعقلية رأت وسمعت وقرأت ما يجعلها تنظر إلى هذا الجمال والهول والخوف من زوايا جديدة ليس فيها ذلك الجهل الناطق. فإن كل شئ لا يعرفه الإنسان يبدو له سراً تحار فيه الأذهان، ولو كان من أبسط البسائط!

فالقروي الذي يزور القاهرة لأول مرة ويشاهد (المصعد الكهربائي) لا يمكنه إلا أن يذكر الله والأسرار، وتتملكه الحيرة والعجب، فإذا حاول مثل هذا الرجل أن ينظم قصيدة عن (المصعد) فقد تروق لأمثاله الذين لا يعرفون الميكانيكيات (وقوانين الطبيعيات). ولكن القارئ المتحضر لا يستطيع قراءة قصيدة تنسب إلى هذا المصعد أهوال الجن وعمل الشياطين!

فالثقافة ووعي العصر الذي نعيش فيه لابد منهما لأي فنان يكتب ليقرأه الجيل الذي يعيش بينه، وذلك لأن الشاعر المصري المعاصر لا يعيش في (شبره) أو (ديوان حكومي)، ولكنه قبل ذلك إنسان حي يعيش في كل العالم، ويحس ببعض ما يدفع بالنفوس الآدمية إلى مناجاة النفس مثلاً في روسيا، أو الحركة والعمل في أسبانيا واليابان. والذي يستطيع أن يرى في

<<  <  ج:
ص:  >  >>