للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذي لا يجد أعمالاً كبيرة يتمجد بها، هو الذي تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها؛ وأنه متى ضعف إدراك الأمة، لم يكن التفاوت بين الرجال بفضائل الرجولة ومعانيها، بل بموضع الرجولة من تلك الألفاظ؛ فإن قيل (باشا) فهذه الكلمة هي الاختراع الاجتماعي العظيم في أمم الألفاظ، ومعناها العلمي: قوة ألف فدان أو أكثر أو أقل؛ ويقابلها مثلاً في أمم الأعمال الكبيرة لفظ (الآلة البخارية) ومعناها العلمي قوة كذا وكذا حصاناً أو أقل أو أكثر!

نسي هذا الشاب أن (أمم الأكل والشرب) في هذا الشرق المسكين، لا تتم عظمتها إلا بأن تضع لأصحاب المال الكثير ألقاباً هي في الواقع أوصافٌ اجتماعية للمعدة التي تأكل الأكثر والأطيب والألذ، وتملك أسباب القدرة على الألذ والأطيب والأكثر.

وتقدم (الأفندي) يتودد إلى (الباشا) ما استطاع، ويتواضع وينكمش، ولا يألوه تمجيداً وتعظيماً؛ ولكن أين هو من الحقيقة. إنه لم يكن عند الباشا إلا أحمق؛ إذ لم يعرف أن تقدمه إلى ذلك العظيم كان أول معانيه أن كلمة (أفندي) تطاولت إلى كلمة (باشا) بالسبّ علناً. . .!

وانقبضوا عن (الأفندي) وأعرضوا عنه إعراضاً كان معناه الطرد؛ ثم جاء (البك) يخطب الفتاة.

و (بك) منبهة للاسم الخاطب، وشرف وقدر وثناء اجتماعي، وذكر شهير، وإرغام على التعظيم بقوة الكلمة، ودليل على الحرمات اللازمة للاسم لزوم السواد للعين، ولو لم يكن تحت (بِك) رجل، فإن تحتها على كل حال (بك). . .! وأنعم له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو (بك) قوة مائتي فدان. . .! أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه (أفندي) قوة خمسة عشر جنيهاً في الشهر. .!

وخنس الأفندي وتراجع منخزلاً، وقد علم أن (الباشا) إنما زوج لقبه قبل أن يزوج ابنته، وأنه هو لن يملك مهر هذا اللقب إلا إذا ملك أن يبدل أسباب التاريخ الاجتماعي في الأمم الضعيفة، فينقل إلى العقل أو النفس ما جعلته (أمم الأكل والشرب) من حق المعدة، فلا يكون (باشا) إلا مخترع شرقي مفلس، أو أديب عظيم فقير، أو من جرى هذا المجرى في سمو المعنى لا في سمو المال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>