للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واستقر شيلر في فيمار نهائياً، ولم يغادرها إلا ليزور برلين زيارة قصيرة ليشرف هنالك على إخراج بعض قطعه. وكانت فيمار يومئذ كعبة الأدب الرفيع، يجتمع فيها حول إمامي الشعر، جيته وشيلر، صفوة من أقطاب الشعر والأدب؛ وكانت صداقة جيته وشيلر أبدع وأروع مظاهر هذا المجتمع الأدبي الباهر. وفي سنة ١٨٠٤ كتب شيلر درامته (ولهلم تل) فكانت أعظم قصصه وأروعها. والمعروف أنه استقى موضوعها من صديقه جيته، وكان جيته قد زار سويسرا قبل ذلك بقليل ودرس هنالك تاريخ تل بطل سويسرا القومي، وزار الأمكنة التي تقول الأسطورة إنها كانت ميادين بطولته، لينتفع بذلك الدرس في قصة يعتزم كتابتها عن تل. ولكنه لما عاد إلى فيمار نبذ الفكرة، وأعطى مواد دراسته إلى شيلر لينتفع بها هو؛ فاستقى منها موضوع قصته (ولهلم تل) فجاءت أبدع ما كتب، وأثارت من جيته أيما إعجاب. بيد أنها كانت أيضاً آخر ما أخرج شيلر. ذلك أنه مرض في أوائل سنة ١٨٠٥، ومرض أيضاً جيته في الوقت نفسه؛ واشتدت عليهما وطأة المرض، حتى صرح جيته بأنه يشعر بدنو أجله، وأن أحدهما لا بد ذاهب. ولكن الذي توفي هو شيلر. توفي في الثامن من شهر مايو، في الخامسة والأربعين فقط، فوقع موته في فيمار وقع الصاعقة، وارتدت ثوب الحداد مدى حين. وتلقى جيته نبأ الفاجعة وهو في فراش مرضه، فبعثت إلى نفسه أيما حزن، وسمع ليلاً وهي يبكي أحر بكاء. وكتب يومئذ إلى أحد أصدقائه مشيراً إلى فقد شيلر: (لقد فقدت نصف حياتي)، وغلب عليه الحزن حيناً فأضرب عن العمل والكتابة؛ والى ذلك يشير بقوله: (إن مذكراتي في هذه الفترة صحف بيضاء. والصحف البيضاء عنوان الفراغ في حياتي. ولم يك ثمة شئ يستهويني في تلك الأيام).

وهكذا مات شيلر في إبان مجده وذروة شاعريته، ولم ينعم بالحياة الناعمة المستقرة إلا ردحاً قليلاً؛ فكانت حياته كلها صفحة كفاح مستمر، بيد أنه خرج من هذا الكفاح ظافراً متسماً بميسم المجد والخلود. ولم يكن شيلر شاعراً مبدعاً فقط، ولكنه كان فيلسوفاً عظيماً، وفناناً كبيراً، ومؤرخاً بارعاً؛ وكان يؤمن بالثقافة كوسيلة لرفع الإنسانية إلى ذرى القوة والعظمة، ويرى أن الفن ليس ترفاً لذوي الفراغ والجدة. وليس لهواً يستمرئه الخامل، ولكنه قوة عظيمة ذات أغراض جدية وإن كانت وسائله شائقة سارة، وإن قرين الدين يعاون على تنظيم هذا العالم. وكان ذهناً ثائراً جريئاً جلداً يمجد بالحرية، ويمقت كل صنوف الاستعباد؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>