للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الشجرة الفينانة؛ حيث راح في سبات عميق قبل أن أوليه ظهري، وفي الصباح كان موقعه أقرب إلى الغدير الحبيب، وعلى غصن دني من غصنه بالأمس، واستكان مرة أخرى في كنف أصابعي، ورشف في امتنان قطرات الماء من فوق أناملي.

وفي المساء وجدته ناشبا بحذر من جذور شجرته المعهودة، وقد تدلى رأسه إلى أسفل، وعلقت مخالبه بلحاء الجذر علوقاً أبديا، وقد لمس منقاره في خفة ذلك الماء النمير، وقد فتح فكيه قليلا للمرة الأخيرة، وراح في سبات دائم آمن، بجوار الغدير الذي عرفه طوال حياته. وظل بجواره إلى أن لفظ الروح في جنباته؛ بجوار الغدير الذي قبلت مياهه منقاره قبلة الوداع، وحفظت صورته في أعماقها إلى اللحظة الأخيرة.

لقد ذهب هذا الكنار كما يذهب أغلب سكان الغابة في هدوء وفي أمن، بجوار الغدير الذي عاش على حبه، ومات بقربه. وليست قصته إلا مشهدا من فصل الموت في رواية الغابة يتجدد دائما باستمرار: فحين يحس الحيوان بغريزته تدفعه إلى البعد عن رفاقه، يمعن في البعد حتى يصل إلى غدير أحبه، ويرقد هنالك مختفيا في انتظار الراحة القادمة، وحينما يأتيه الموت لا يظنه إلا غفوة تأخذ تعبه معها، ثم يعود بعدها حرا طليقا، وهناك في رقدته الأبدية تخفيه أوراق الأشجار، التي ألفها وألفته؛ عن أعين أصدقائه وأعدائه على السواء. . .

محمد أبو الفتح البشبيشي

<<  <  ج:
ص:  >  >>