قضيت حياة المدرسة، وبدأت حياة العمل لأرفه عن هذا الوالد الحنون بعض ما يعانيه في إعالة أمي وأخواتي، مغتبطة في قرارة نفسي بأنني أستطيع أن أكافئه بعض المكافأة. ولكن جمالي وثقافتي وسيرتي الحسنة بين أترابي كانت تستثير الناس لطلب يدي؛ وما من شاب من الطبقة الراقية في تعليمها أو في ثروتها إلا تمنى أن أكون له، ولكن كان الجواب دائماً سلباً، ولما كان قلبي لم يتفتح لحب بعد، كنت لا أعير هذه المسائل شيئاً من الاهتمام، وكنت أعتقد أن كل فتاة تقدم على الزواج مجنونة ولا أريد أكونها.
قاوم أبي تلك النكبات التي كانت تهاجمه بصبر وثبات، ولكنها أخيراً خرجت عن طوقه فأصيب بالشلل، وهاهو الآن ليس بالميت فينسى ولا بالحي فيرجى. وخلف لي أعباء ثقالاً لا قبل لمن كانت في سني باحتمالها، وشعرت بخطورة المسئولية الملقاة على عاتقي، فكنت أقضي نهاري في العمل على الآلة الكاتبة وأعود في المساء باشة هاشة ضناً بوالدتي عن أن أحملها هماً فوق هم، وبأخواتي اللواتي ينتظرن من عودتي الملاطفة والحلوى عن أن أخيب أملهن. المستقبل قاتم لا ألمح فيه قبساً من أمل، والغد مجهول لا أعلم ماذا يحمل بين طياته، ولا أدري ماذا يكون المصير.
طالِبو الزواج يريدونني بإلحاح، وأمي ترفض بدعوى أن ليس بينهم من يستحق يدي، فكل شاب لا يخلو من عيب، وهي تريد ملاكاً لملاكها، إذاً فلننتظر ولننتظر، ولكن الانتظار طال. وفهمت، ولكن في وقت متأخر أنها محاولات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. فشقيقاتي الصغيرات تزوجن، ووالدتي لم تبد في أمرهن تلك الملاحظات التي عودتنيها، واثنتان منهن أصبحا أُمَّين، وأنا أنظر بعيني والألم يصهر نفسي والأباء يعقد لساني عن الإفصاح بما يخالجني. هي تريد إبقائي عذراء أشتغل وأشتغل حتى الموت لأعولها مع بقية أطفالها. ولو أنها أفصحت لي عن غايتها لكتبت لها صكاً على نفسي أنني سأظل أشتغل إلى أن يكبر أطفالها!! هي تحبني، لا أشك في ذلك، ولكن هذا لأنني أبذل في إسعادهم قلبي ومستقبلي وسعادتي!!
لقد ضقت ذرعاً بهذه الحياة ولم يبق في قوس الصبر منزع، خلقت أنثى وحرمت ما ينعم به مثيلاتي ويسعدن، واشتغلت كالذكور وحرمت الحرية التي يتمتع بها الذكور!!