لبد، ولا مال عندي ولا ولد، ويحضرني اسم هذا الصديق فأستشعر المرارة لفراقه وأكتب إليه رسالة تفيض بمعاني الوجيعة وبرحاء الألم، راجياً أن يذكرني في نفسه فيمن يذكر من الصحب والصدقان. وإنه ليطالع كتابي فتفيض شجونه ويهبط بالإسكندرية ليلاً ثم يوفض إلى بيتي على غير موعد، ويراني في قراشي مسهداً تعرقني الحمى فيبكي ويستعبر، ويذكر أيامنا الحلوة التي طويناها في صداقة لا يزيدها اطراد الزمان إلا استحكاماً.
ويشاء الله العلي القدير أن أبل من مرضي، فنعود إلى ما كنا فيه من تراسل وتزاور بين حين وحين.
كان بعد ذلك أن بعثت إليه أوصيه بأمر عينته له، هو من بعض شأني، فأبطأ علي في الجواب حتى تداخلني الريب. وما هي إلا أيام حتى تلقيت منه كتاباً ينعى إلي فيه والده، وكان البقية الباقية من أصوله، فوقع مني النبأ موقع الصاعقة على الهشيم، ثم حوقلت واسترجعت وأرسلت أعوز به معتذراً عما فرط مني قبل هذا.
وعادت الأمور بيننا إلى مجاريها، وكنت كلما رأيت من صاحبي فتوراً عن ذي قبل صرفت الأمر عن جهته، وعدلت به إلى ما هو الأكرم بي وبه، وغدوت أبعث إليه بالرسائل فلا يجيب، وإذا ما تعجلته في أمر من الأمور، ادكر بعد أمة، وإذ ذاك أدركت أن الرجل تشاءم من رسائلي أو على الصحيح تشاءم بي.
ويشاء القدر أن أرسل إليه كتاباً أوصيه فيه بشخص أثير عندي، وأعلم بعد يوم أو يومين أنه احتسب طفلاً له.
لقد كان المصاب عندي ما يكاد يحتمل، حتى خيل إلي أن الولد ولدي وأن الفجيعة فجيعتي، وبكيت مريراً ثم عزيته عزاء دميلاً، وأنا أدرك أن منزلتي عنده قد بطت وأني صرت حياله لا صديقاً ولا شبه صديق.
وهبط بالإسكندرية في صيف من الأصياف ليقضي أياماً دون أن يبلغني بأوبته، وأستقصي عنه في جميع منازله فلا أدركه، وأراه يوماً ساعة الأصيل في مشرب من المشارب العامة فلا يكاد يبصرني من بعيد حتى يتطاير عن المائدة، ويفر إلى داخل المقهى كأنما كنت غولاً لاهم له إلا افتراس الأناسي!
لقد لحقني الإشفاق على الرجل وتألمت أشد الألم لذهاب صداقة مكينة كنت أعتز بها جد