أود أن أشير إشارة عابرة إلى تعليق الرسالة الزاهرة في تخريج أسبقية النثر على ما رأته الآراء.
فقد قرأت (لابن رشيق) في العمدة كلاما لا يخلو من جمال وتحقيق حول نشأة الشعر من حيث يقول:
(وكان الكلام كله منثوراً؛ فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم؛ فتوهموا أعارض جعلوها موازين الكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا. .)
ووجه الجمال في هذا القول: أنه قال (الكلام) على وجه الإطلاق؛ فلم يصرف القصد إلى (النثر الفني) لأن العرب لم تسكن أمة كتابه، ولغة التخاطب كانت موحدة الأداء مع اختلاف اللهجات، والمنثور المعتمد على التأني والابتداع لا يتم إلا إذا تمت الملكة التعبيرية التي تجمع بين طرفي الإيجاز والإطناب ومراعاة مقتضى الحال، واختيار الألفاظ والبراعة في التصوير والتحليل، فالتعليق الحكيم الموجز من الرسالة إنما هو تنصيص على حقيقة (الأسلوب الفني) الذي يطلق عليه (النثر) القسيم للشعر.
أما أسبقية النثر اعتبار إرساله من دون الاعتبارات الفنية فأمر مفرغ من اعتباره، لأن النثر مطلق، والشعر مقيد والمطلق في كل شيء مقدم على المقيد. على أن (ابن رشيق) يقول (ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشر). . والتعبير بقوله (تكلمت) يؤيد ما ذهبت إليه الرسالة من أن القصد لغة التخاطب باللسان، لا لغة الإبداع بالقلم، أما اعتبار الحفظ فإن موسيقى الشعر تنغم الإحساس فتستقر الألفاظ في واعية الشعور ولا ينالها النسيان كالنثر!