إنها صورة جامعة تعرض رقعة العالم وتصفها وصفاً بيناً، لا يتعسف المؤلف فيه ولا يستبد؛ إنما يشرك معه الباحثين والمؤرخين من القدامى والمحدثين، وممن يدينون بغير الإسلام، فلا شبهة في أن يكونوا مغرضين له، وللدور الذي أداه في ذلك العالم القديم
إنه يصف العالم تسيطر عليه روح الجاهلية، ويتعفن ضميره، وتأسن روحه؛ وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية؛ وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التعس؛ وتغشاه غاشية من الكفر والظلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح؛ وبخاصة المسيحية التي يصورها مستر (ج. هـ. دينسون) صورة دقيقة في كتابه فيقول:
(في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يكن ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها، وكان يبدو إذ ذاك أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام
أما النظم التي خلفها المسيحية، فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام. وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله. . واقفة تترح، وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب. . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه
. . . فإذا فرغ المؤلف من رسم صورة العالم في جاهليته هذه بدأ يعرض دور الإسلام في حياة البشرية، دوره في تخليص روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، ودوره في تخليص المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات واستبداد الحكام واستذلال الكهان، ودوره في بناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في