صوت الفقير يقول:(أعطني.) ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه كما يواسي المبتلى من كل في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لأحداث الترميم العصبي في الجسم؛ ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى يدخل في المحاق؛ إذ تنفتح العروق وتربو في النصف الأول من الشهر كأنها في (مدّ) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجَزْرُ) في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءةً وظلاما. وإذا ثبت أن القمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجزْره، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمرياً دون غيره.
وفي تَرَائي الهلالِ ووجوبِ الصوم لرؤيته معنى دقيقٌ آخر، وهو - مع إثبات رؤية الهلال وإعلانُها - إثبات الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبِر.
وهنا حكمة كبيرة من حِكَم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته. ويبقيه مصراً على الامتناع متهيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقةٍ نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة. وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم؛ ففي هذين تعرض الفكرة مارةً مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرِضت فرضاً لتربية إدارة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مراً؟
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ