دورانها. ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
عجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه
المعنوية فيودعها مصرف روحانيته ليجد منها عند الشدائد مدد
الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة - عجيب جداً أن هذا
الشهر الاقتصادي هو من السنة كفائدة ٨ و٣١ في المائة. . .
فكأنه يسجل في الأعصاب المؤمن حساب قوته وربحه، فله في
كل سنة زيادة ٨ و٣١ من قوته المعنوية الروحانية.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمد عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة:(كتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قَبْلِكم، لعلكم تَتَّقُون.) وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى) أما أنا فأولتها من (الاتقِّاء) فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف. وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فان ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذا الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي.
وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهةً فلسفية عالية لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل