هذا ضعف ولين ومسايرة، وما كان كذلك، فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية، ولا يقبل توزيع قواه. . وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن دور إلى دور على أساس النضوج والتكامل، وكان هذا يزعج خصوم الوطن الذي لم يعهد سياسته تعلو على المطامع الفردية، وتتعالى على المطامع الفردية، وتعالى على الأغراض الذاتية، وتنقي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة.
وكان الرجل على قدرته الفائقة في ضبط أعصابه، كيساً في مواجهة الأمور، لبقاً في استقبال الأحداث والأزمات.
وإلى هذا كله كان غاية الاعتدال، فكان يعيش براتب لا يزيد على راتبه المدرسي المحدود، وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه وحوله من العاملين معه، ما يصل إلى ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه.
وكان في بيته مثال الزهادة، وفي ملبسه مثال البساطة، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش، ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة، فلا تراه يختلف عن أي لإنسان عادي، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه، والذي لا يقوى الكثيرون على مواجهته، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزاً واضحاً للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات، وكان إلى هذه الثقافة الواسعة الضخمة، قديراً على فهم الأشخاص، لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلى قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه. . . ويعذرك فيما تختلفان فيه.
وهو واسع الأفق إلى أبعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأي، ولا يضيق بالرأي المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلى الجماهير دون أن يصطدم بهم. . هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه. .
لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين، وحول اتجاههم في الحياة، وأعطاهم الهدف، وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة. وكان له من صفات الزعماء، صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل إلى نفوس الجماهير، ولا تنبو عنه أذواق المثقفين. وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع.
وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت