كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد. ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال
ومع تكاثر العظات والتجارب. فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية. ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة. ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطامع والمطامح، وتلهث وراء الوعود والسراب. . ثم تهوي، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار
لقد شاهدت في عمري المحدود - وما زلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرءوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماته، وتلوي أعناقهم وتنكس رؤوسهم. . ثم يطردون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أنت يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة. . شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهما، وهم يؤدون للذل دينارا أو قنطارا. . شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان!
لا بل شاهدت شعوبا بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات. خرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية. ولا تبلغ عشر معشارها. وقديما قالت يهود لنبيها:(يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، فأذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون). . . فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة، أربعين سنة تتيه في الصحراء تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف. . وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمنا للعز والنصر في عالم الرجال!
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدي هذه