إننا نبحث في إنتاجه - النثري والشعري معاً - فلا نجد غير مجموعة متناقضة من الآراء، وقسطاً وافراً من الشكوك العقلية، لا تجد من يذهب بها إلى الجزم واليقين، والشاعر حائر مضطرب لا يدري بأي رأي يتمسك، وإلى أي سبيل يتجه، فهو من هواجسه في ليل دامس لا يشرق فيه بدر منير، وقد دارت أكثر شكوكه حول الموت وما يعقبه من فناء أو خلود، فأكثر من الحديث في ذلك دون أن يجزم برأي يظهر اتجاهه، ويكشف عقيدته، فقد تقرأ له القصيدة فتظن أنه من الماديين الذين ينكرون خلود الروح، فإذا انتقلت إلى قصيدة أخرى رأيته يتشبث بالفكرة الإسلامية في الخلود والبقاء، ثم تقرأ قصيدة ثالثة فتجده في حيرة دامسة بين الرأيين السالفين، يذكرهما في شك وتردد، دون أن يعتصم برأي خاص يجهر به، ويصرح باعتقاده، وما هكذا الفيلسوف الصادق، بل أنه صاحب المذهب الفكري الذي يقيم بناءه على دعائم قوية من الأدلة والبراهين، وقد نلاحظ صلات واضحة بيم ما قاله أبو العلاء وما نظمه الزهاوي، فكلا الرجلين عريق في هواجسه وظنونه، ينفي ويثبت، ويلحد ويستغفر، ويجزم ويتردد، وقد أطلق المؤرخون على المعري ما أطلقه المحدثون على الزهاوي، فكان الأديب الفيلسوف، على ضرب من التجاوز، ولم يكن الفيلسوف الأديب، وأذكر أن الأستاذ أمين الخولي قد كتب كتابه (رأي في أبا العلاء) ليجرده من الفلسفة، ويقصرها على أصحابها المفكرين، وقد ذكر مجموعة كبيرة من لزوميات أبي العلاء، تظهر تناقضه الصريح في جميع ما ذكره من المعاني والآراء. . فهو يقول في الموت والقدر والروح والإله وغيرها أشعاراً متضاربة ينقض البيت أخاه، والكلمة سابقتها، حتى لا يستقر بقارئه على موضع، ثم خرج الأستاذ الخولي بالنتيجة السافرة التي تنفي أن يكون من التناقض والاضطراب والتردد والحدة مذهب فلسفي يدعي صاحبه بالفيلسوف
وسنفحص أقوال الزهاوي على ضوء ما كتبه الأستاذ في أبي العلاء لنصل إلى ما وصل إليه من نتائج، وحين نفعل ذلك لا نظلم الزهاوي في شيء، بل ننصفه من الفلسفة وننصف الفلسفة من أناس فهموها على غير وجه صحيح، فلقد حسب كثير من القراء في عصرنا الحاضر، أن كل كلام يقال في القدر والحياة والموت يمت إلى الفلسفة بنسب عريق، ومن