كان العدو الأسود يمزقه من الداخل، ولكنه كان قادراً على إبعاده بعض الشيء. وعندنا شواهد طيبة على الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته لم تخل لحظة واحدة من الألم الممض. على أنه مع كل ذلك لم يتشك قط ولم يتضجر أبداً. نلاحظ ذلك في مراسلته مع جوته، فنراه بشوشاً مشغولاً ونادراً ما كان يتكلم عن أدوائه وأوصابه، وإذا ما تكلم عنها فبلغة شخص ثالث كأنه يعتز بأيامه التي بقيت في حوزته. على أننا نستطيع أن نقول إن أعظم أعماله الشعرية تعود إلى هذه الفترة؛ خصوصاً إذا تذكرنا كم وكم من أضراب روسو من الأدباء والشعراء السطحيين الذين نحلوا وذابوا أسى، على الرغم من المواهب التي أوتوها - لأنهم أصيبوا بأمراض عصبية انتهت بكثير منهم إما إلى الجنون وإما إلى التعاسة المهلكة، على أن شلر - وهو في مثل هذه الأوضاع نفسها - كتب أعظم تأملاته وأحسن رواياته من (ولنشتاين) إلى (وليم تيل).
يقال أن هذه المحن لا يمكن تحملها إلا بالاعتماد على ركيزة الدين وحده، ونحن نقول إن شلر كان له دينه الخاص. . وكان متعبداً وناسكاً. . ولذا فهو لم يحتج في آلامه الأرضية إلى دعامة سماوية تسنده، بل اقتصر على الدعامة المثالية في تحمل أوصابه في مثل هذا العالم البائس المريض.
هل لنا أن نتكلم عن سعادته؟ واأسفاه ماذا يعني سمو العبقرية غير معدة قوية وشهية ممتازة!. . أو تعني حتى كلمة روح معنى المعدة في بعض اللهجات السكالفونية؟ أليس الجلوس في راحة والتمتع بالمشهيات والروائح العطرية والاستمتاع بالماضي والحاضر والمستقبل والإخلاد إلى الأحلام واليقظة بين الفينة والأخرى ما يدل على الطمأنينة والسرور والحياة الهانئة والبهجة الدائمة والسعادة الكلية.
إن الأمر بالنسبة إلى العبقري المريض لا يتعدى كما يقول شلر (عالمه الذهني المثالي الداخلي الذي ينخره الداء المتباطئ ويستنزف جماله ويعصف به عصفاً شديداً، فلا يبقى منه إلا اليأس والقنوط والمرأة وغلا الحرمان الذي يلازمه حتى النهاية المرعبة) ولم يكتف شلر بهذا بل نراه يستطرد في ذلك فيقول (الويل لمن تضطرب إرادته وتخور عزيمته وتنحني رقبته أمام نير هذا العدو الجديد! لان البطالة والخيال المشوش يسيطر عليه وتطلق سراح ألوف الشياطين لتضايقه وتعذبه حتى تجننه. وا أسفاه! إن عبودية الجزائر تعتبر