فصاحت الفتاة وقد ملكها الحنان وأدركها الجزع: كلا إنك ستعيش! وسأجعلك في قلبي، حتى إذا ثارت العواصف الهوج لا يمسك منها أذى. إن (ليكوس) سعيد محبوب، وعذارى أثينا كثيرات يفتحن له دورهن وصدورهن. أما أنت أيها الفريد الشريد الموجع، فإليك وحدك كل أيامي وأحلامي وحبي.
(خذ يا أخي، خذ يا شاعري! هذا ثمن أغنيتي) ثم نزعت من فوق جبينها الأبلج إكليل الزفاف وألقته مبللاً بالدمع تحت قدمي إكسوس! فأراد إكسوس أن يجيب، ولكن التأثر المفاجئ صعق الصبي المسكين فلم يستطع إلا أن يقول بصوت خافت:(أوه! ثم وضع يده على قلبه وخر مغشياً عليه! ثم بات طول الليل يتضور من شدة الحمى، وأخته بجانبه لا يغمض لها جفن، ولا يرقأ لعينها دمع.
وكان الغد موعد أبناء هرقليس إلى المعبد ليقترعوا هناك على الضحية. فتقدموا إلى الهيكل كما يتقدمون إلى المعركة: قلوبهم فارغة من الهم، ورءووسهم مرفوعة من العزة؛ ثم جرت المراسم المألوفة وهي لا تختلف عما رأيناه في دلفي. واقبل كاهن من كهنة (منيرفا) فأجال الأسماء في الصندوق، ثم تقدم طفل معصوب العينين إلى الإناء المقدس يستخرج منه حكم الموت. فلم تكد يده تلمس حافته حتى دوى على عتبة المعبد صوت امرأة يقول:(قف! هاكم الضحية. .)
وكان ذلك الصوت صوت مكريا وهي تتقدم إلى المذبح كاسفة اللون، كاملة الأهبة، تنوس على جبينها الأزهر الجميل عصبة الذبيحة. فدلف إليها إيجسط وقال: أهنا أنت يا أختاه لقد وعدتني أن تتخلفي لتقومي على سرير إكسوس. فقالت وهي تغالب الدمع وتحبس الزفرة: إن إكسوس مات! وليس الآن ما يمنعني أن أفديكم بنفسي. ثم تابعت سيرها البطيء إلى الهيكل بين تصفيق الجمع وإذعان الإخوة. ثم جثت مكريا أمام المذبح وعوقت بالإشارة مدية الذابح العجلان حتى تلقي على أخوتها ابتسامها الأخير، ثم أغمضت عينيها، وأزاحت الغطاء عن ثدييها، وكانت بعد دقيقتين جسداً يضطرب على مذبح الهيكل!
ثم أضرموا النار وجعلوا منها لإكسوس ومكريا محرقة واحدة! وعندئذ رأى الناس شيئاً يصعد من اللهيب إلى السماء، رفاف الأجنحة ناصع الريش رائع الرواء!
وهكذا كانت الفضيلة (مكريا) في العصور الخوالي تكفل الشعر (إكسوس) وتلهمه.