الفضاء، حتى كأنها تريد أن تسحق وجودنا المادي. وفي كلا الحالين تهيب مخيلتنا بعقلنا، فيتركنا العقل ذاهلين أمام السماء ذات الكواكب واللانهاية التي لا تحد ولا تبلغ إلى عظمتها المخيلة مهما سمت، وهو العقل الذي يثير فينا عاطفة السمو، ويجعلنا نردد معه (ما أنا إلا قصبة، لكنها قصبة مفكرة)
فالسمو إذن لا يكمن في الأشياء، لكن في أنفسنا، فلا يجب علينا أن نقول (إن هذا الشيء هو سام) ولكنه شيء يبعث فينا فكرة السمو، فلا شيء في الطبيعة مهما جل - إذا نظرنا إليه نظرة قياسية - إلا وهو يهوى إلى أحقر الأشياء، ولا شيء حقير - إذا قسناه بمقياس آخر - إلا وهو يرقى إلى أعلى الأشياء، وهناك المراصد والمجاهر تثبت صحة دعوانا
يعرض أمامنا شيء رائع، يعجزنا التعبير عنه فنقول: إنه لسام رائع: ويخلق معركة حامية بين العقل والمخيلة، فلا تستطيع المخيلة إدراك كنهه، والعقل لا يفتأ يتحرى عن وسيلة يفهمه بها، فينشأ من ذلك تلك الروعة التي نحسها أمام الأشياء العظيمة السامية، ولكنها روعة ترفع أنفسنا إلى المثل العليا، لأنها تنبه فينا ناحية العظمة الصادقة التي تنجلي بها طبيعتنا الإنسانية وحريتنا الأخلاقية.
أسلوب كانت
يعد كانت أصدق الفلاسفة اعتقاداً وأصفاهم أسلوباً، يقول ما يعتقد به حقاً، ويكتب لقرائه كما يكتب لنفسه، تكاد تنطق جملته بفكرته، ويعتقد أن الحقيقة غنية بنفسها، وأن الزخرفة في التعبير عنها مما يرخص من قيمتها، وبرغم هذا الأسلوب الواضح رماه بظلمة التعبير، وقد أراد هؤلاء أن يظهروا أن كانت ليس ممن تنبسط آراؤهم للقارئ بسهولة. على أن أفكار كانت لا تمشي إلى قارئها، وإنما على القارئ أن يسعى إليها ليدركها، ولكنه لا بد مدركها كلها، ولكن إدراكها لا يخلو من الجهود التي لا يستغني عنها رجل يسعى
إن أسلوب كانت واضح جد الوضوح، ولكن عيبه الواحد الذي أخذه عليه النقاد أنه يخلق في الموضوع شعباً كثيراً لا يترك منها مسرباً إلا نفذ فيه، وهذا قد يدل على سعة اطلاع ونظر بعيد وإن كان لا يخلو من السأم، ولكن كانت لم يكتب إلا لذوي الإلمام بهذا الموضوع فقد يأخذ الموضوع الحقير الذي لا يكاد يخوض فيه عقل فيخلق منه موضوعاً كبيراً، وقد ذكر أحدهم نكتة جرت على لسان صديقه (فيمار) أن هذا أعلن للفيلسوف أنه لا