وطنه؛ ومما يذكي هذه الرغبة في نفسه نظام الملكية الصغيرة التي تسمّره في أرضه. وقد كان هذا الاحتشاد الهائل في تلك الجزر الصغيرة وتعذر سبل الهجرة من أكبر العوامل في دفع اليابان إلى اعتناق الفكرة الصناعية، والعمل على تحويل اليابان إلى بسيط شاسع من الصناعات الكبيرة التي تستطيع أن تستغرق هذه الملايين العديدة وان تمدها بالقوت. وقد نجحت هذه السياسة نجاحاً عظيما، حتى كان عدد المصانع يزداد في العصر الأخير بمعدل مائة إلى ثلاثمائة في العام الواحد. وكان عدد هذه المصانع سنة ١٩١٧ يزيد قليلاً عن ألفين، فوصل في سنة ١٩٢٩ إلى ٥٩٨٨٧ مصنعاً! ثم زاد في الأعوام الأخيرة زيادة كبيرة
ومن الغريب أن اليابان استطاعت أن تقوم بهذه المعجزة الصناعية رغم كونها ليست غنية في الموارد والمواد الأولية؛ فهي في الواقع تستورد كثيراً من المواد الأولية من الخارج. ولكن اليابان غنية في بعض المواد الحيوية كالفحم، فهي تملك منه مقادير وافرة، وتصدر منه أحياناً؛ وتملك أيضاً مقادير وافرة من البترول والحديد، ولكنها لا تفي بحاجتها. أما في المواد الأولية الزراعية فاليابان فقيرة جداً، وهي تستورد معظم ما تحتاج إليه من القطن والصوف والجلد وغيرها، على أن هذا النقص لا يمنع صناعتها من التقدم بخطى جبارة؛ فقد استطاعت كما سنفصل بعد أن تأخذ المحل الثالث في الصناعات القطنية بعد إنكلترا والولايات المتحدة رغم كونها تستورد القطن من الخارج
ومن الطبيعي أن يؤدي احتشاد السكان ووفرة الأيدي العاملة إلى رخص الأجور. ومسألة الأجور هذه إحدى معجزات الصناعة اليابانية ونعمها السابغة، وهي معقدة متنوعة النواحي؛ وتنخفض الأجور في اليابان إلى حدود غير معقولة؛ وللعامل الياباني (معيار للمعيشة) في منتهى التواضع، وليست له طلبات خاصة، فهو قنوع جد القناعة لا يطمح إلى أكثر مما يحقق ضرورات العيش، ولا يفكر في شيء من ألوان المتعة والترف التي يطمح إليها العامل الأوربي. وهو صبور لا يحسب في العمل حساباً للقوت، وليس له تشريع عملي يحميه، ولم يعرف بعد شيئاً من تلك النزعة العدائية التي تجعل العمل ورأس المال في الغرب خصمين دائمين، والتي تحفز الكتلة العاملة إلى الجهاد المستمر في سبيل حقوقها المادية والمعنوية. ومن الصعب أن نقدم بياناً رقمياً عن الأجور في اليابان يمثل حقيقة ما يكسبه العامل، لأن الأجور النقدية تدعم أحياناً بأنواع من المعاونات الخاصة، كالتعويض