بل إن الروعة المعنوية لحادث كبير او تصرف حصيف، او خلق كريم، لتكون في كثير من الاحيان اوفر مادة واكرم اثارة من مظهر مادي
وإذا كانت الجزيرة ببساتينها وقصورها، والروضة بحافل تاريخها، والأزهر الشريف بماضيه، تأخذ باللب وتلهم القائل، ففي جزيرة السودان، وفي غاباته، وفي منابع النيل السعيد الكريم، وفي مجاري مياهه الأولى وروافده سمة للفكر والقول، وأي سعة؟
لقيت في إحدى سفراتي ضابطاً شهماً اقام بالسودان، اخذ يحدثني عن رحلات قام بها في ربوعه، والضابط اقرب الناس إلى اختصار القول وأبعدهم عن زخرفه؛ ومع ما بيني وبين ما يصف من شقة بعيدة، فقد ظلت طوال الرفقة أخيذ القلب بالصور الرائعة يعرضها واحدة تلو اخر حتى دونت منها كثيراً، وحتى تمنيت لو كنت شاعراً فأصوغها نظمياً أقوم به ببعض الواجب نحو بلادي
وكم يكون من خالص التوفيق أن تدعو (الرسالة) إلى رحلة فريق من الأدباء في العام القادم، يصلون ما انقطع في عالم الأدب
ثم انظر بعد لك الى المسارح!! فلن تجد رواية حدثت وقائعها بالسودان. بل إنك واجدها حافلة بالمناظر الأوربية، وبكثير من مناظر القاهرة وبعض القرى، دون أن يحظى بصرك بمنظر واحد يمثل لك الخرطوم قائمة شاهقة على الأيدي الثلاث، ولا منابع النيل إليك حقيقة الأواصر في الوحدة المباركة، ولا بمثال الشجاعة وكرم الخلق الذي تسير على نوره الركبان
إنا حين نقول في أدبنا القومي عن اهل الوجه البحري، إنهم أولو ذوق سليم، وعن الوجه القبلي إنه موطن الكرامة والكرم وجب أن نقول عن أهل السودان إنهم أهل الوفاء والشجاعة
كان الأمير (علي بن دينار) ممتعاً بكثير من مظاهر الحكم، وليس أغنى من الانجليز ولا أسخى منهم يداً وقت الحرب، وهم المسيطرون حواليه، ولكن ذلك لم يكن مغرياً له، فهو لم يفتأ يذكر أنهم نكبة وادي النيل وهو منه، فما ثار إلا عليهم وفاءً لحق النيل وواديه، وظناً منه بسنوح الفرصة