للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فلا أبالي واله الورى ... أشرق العالم أم غربوا

أما المنصور فنجح وأسس ملكا ضخما، ووصل إلى هذا النجاح بقوته وحزمه، لذلك كان أحب شعر إليه شعر القوة والعظمة والحمية.

يخيل إلي إنا إذا ألقينا نظرة عامة على الأدب العربي من هذه الناحية رأينا الأدب الجاهلي قويا (كجلمود صخر حطه السيل من عل) حماسة قوية، وفخر قوي، بل وغزل قوي، والأدب الإسلامي إلى آخر العهد الأموي، أدب قوي، فيه عزة الفاتح، وإعجاب الناجح، ونشوة المنتصر، وإن كان فيه نغمات ضعف فنغمات الحزب الذي غلب على أمره، أو المحب الذي يئس في حبه، أما من عدا هؤلاء ففخر وإعجاب، وهجاء في أعلى درجات القوة.

فإذا نحن انتقلنا إلى العصر العباسي رأينا العزة العربية تأخذ في الضعف، ورأينا الانهماك في اللهو يبعث أدباً جميلا في فنه، ضعيفاً في روحه، فيقول رئيس المجددين في عصره بشار بن برد:

قد عشت بين الريحان والراح وال ... مزهر في ظل مجلس حسن

وقد ملأت البلاد ما بين قغفو ... ر إلى القيروان فاليمن

شعرا تصلى له العوانق وال ... ثيب صلاة الغواة للوثن

وتوالت النكبات على الشرق من ظلم وجور وسوء في كل نظم الحياة الاجتماعية فكان الأدب العربي ظلاً لهذه الحياة (كان أدبا ضعيفاً)، إن أنت حصرته وجدته بين باك على مصائب الدهر كأبي العلاء، ومادح للولاة والأمراء والأغنياء. ومستهتر يصف استهتاره وصفاً أنيقاً بديعاً يرضي الفن ولا يرضي الروح، وما اخترع من الفنون كان من هذا الضرب، مقامات للبديع والحريري بنيت على التسول والاستجداء، وإفراط في المجون، أو إفراط في التصوف، وكلاهما فرار من حياة الجد والنثر حمل كل أنواع الزينة من سجع وبديع، فكان كالفتاة تسرف في التجمل الصناعي لما شعرت بنقصان جمالها الطبيعي.

ولم يظفر العالم العربي من العهد العباسي إلا بأفراد قلائل منحوا من القوة في أدبهم ما كان موضع الإعجاب كالمتنبي والبارودي، وكلاهما كانت قوته صدى لحياته، فالمتنبي فارس شجاع كان في أكثر شعره يسجل وقائع سيف الدولة مع الروم، ويدوّن مظاهر القوة

<<  <  ج:
ص:  >  >>