مياهه اللطيفة تداعب الأحجار القائمة في طريقها بلطف، وتلامسها في غير عنف، وعلى نقيق ضفادعه تستقبل بواكير الربيع الضاحك، وكم غرقت في هذا وذاك غرقاً لا أخرج منه إلا بعد سفر طويل. هناك في ذلك المكان رأيتها، وكان ذلك في يوم ملول فاتر، والضباب المعطر النفحات الرطب الذرات يتطاير رويداً رويداً فوق ذري الجبال. ثم ينتشر في السهول والقيعان والآكام والوديان فرحاً بالربيع الغض النضير، باعث الحياة في الأموات
أما المناظر البديعة التي كانت تمتد بامتداد البصر، وتسترسل على قدر ما يبلغه النظر، فقد كانت تؤلف بصورها المتنوعة سلسلة من البدائع، تتجلى في طيف الخيال كأنها عالم من العوالم الشعرية المبهمة، وتظهر في صورة خيالية لو مرت بها نسمة من النسمات الفاترة لذهبت بها أباديد
إن في سكون الصحراء العميق نفساً عميقاً لا يكون إلا في سكون الصحراء، إنه سكون حي قوي الحياة، لو نظرت اليه بدقة وإمعان لخيل اليك بقوته أن الطبيعة تتنفس كما يتنفس كل ذي روح
لقد طفت كثيراً في النواحي أمتع النفس بالنظر إلى الضباب القائم يطير بين تلك الجبال كأنه الدخان، والى الزهرات الناضرة سقطت عليها حبات الندى فارتجفت تحتها ومالت أعناقها لثقلها، وأصغى إلى الأطيار على الأشجار تتغنى في هدوء بأصوات مملوءة بنشوة الطرب وسكرة النشاط، وبلغت من لك كله ما أريد
لقد أحيت في نفسي تلك الحال الجذابة، وتلك المناظر الخلابة، وتلك النزهة الواسعة الأطراف، المترامية الأكناف، روحاً جديداً، وأثارت رغبة كامنة، فكنت أقف أثناءها وقفات تسكن فيها الحواس، ويذهب الفكر إلى أبعد مداه، لقد كنت مأخوذاً أمام تلك الطبيعة التي تغرق الفكر، وتشتت اللب، حتى يكون التفكير ذهولاً، لقد كنت مأخوذاً بسبب ذلك الشعور الأخاذ الذي يفوق كل شعور حتى يجعل من الإنسان الحساس جماداً لا يتحرك ولا يحس
لست أدرى لماذا أبحث عن هذه الأشياء ولماذا أتكلم عنها؟ وليس لها من صلة بالحادثة التي أثارت أحزاني وحركن كوامن أشجاني وحرمتني حتى من نفسي أياماً طوالاً، أجل لا أدري، ولكني أريد أن أقول إني رأيت فصول تلك الرواية المحزنة وأنا أشد ما أكون تأثراً