للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فأنت تراه يشبه أولئك الذين يتحدثون إلى الديار بالبوم تندب دارس الجدران، ثم يؤكد لك أن مذهبه لا يشبه مذهبهم، وطريقته لا تتفق مع طريقتهم ويقول:

حسبك لا يغني سؤال الديار ... قم، فاصرف الهم بكأس العقار

واستنطق العيدان إن كنت ذا ... لب فما ينطق صم الحجار

البم والزير وكأس الطلا ... أولى بمثلي من سؤال الديار

وهو يشبه في ذلك أبا نواس الذي سفه أولئك الباكين على الأطلال والآثار، وصرح بأن الأولى والأفضل أن يبدأ الشعر بذكر الخمر وما إلى الخمر

ولقد سار ابن النبيه على تلك الطريقة فلم يبدأ شعره يوماً بسؤال حجر ولا استنطاق أثر، وهناك نقطة ثانية تراها في بعض مدحه تلك هي نقطة الاستطراد والدخول في موضوع جديد بمناسبة ذكره، ولنمثل لذلك بمدحه للخليفة الناصر فهو مدحه وأثنى عليه، وما هو إلا أن ذكر انتسابه للنبي حتى مضي يمدح النبي، ويذكر خصاله ومعجزاته. ولعل ذلك نشأ من أن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن له من السلطان والقوة شيء، وإنما كان يعتز بالسلطة الروحية التي تستمد من النبي، فلا جرم كان مدح النبي مصدر تلك السلطة مدحاً للخليفة، وترقية من شأنه، هذا وقصائد مدحه متوسطة بين الطول والقصر غير أنه كان يقصرها أحياناً، ولكن لا يفوته أن يعتذر عن هذا القصر، ولنختم الحديث عن مدحه بذكر قطعة صغيرة تعطيك صورة عن هذا المدح: قال يمدح الملك الأشرف، ويذكر دخوله مدينة خلاط:

أبيٌ، سخيٌّ تحت سطوته الغني ... فحف وتيقن أن في عسره يسرا

هو البحر بل أستغفر الله إن في ... بنان يديه للندى أبحرا عشرا

لحي الله حربا لم يكن قلب جيشها ... ومجلس عدل لا يكون به صدرا

أطل على أخلاط يوم قدومه ... بلجة جيش يملأ السهل والوعرا

تلقاه من بُعد المسافة أهلها ... فذا رافع كفا وذا ساجد شكرا

فشككت أن الناس قد حشروا ضحا ... أم الناس يستسقون ربهم القطرا

أما غزل شاعرنا فنوعان: غزل هو مقدمة لمدح، وغزل قصد إليه قصداً وعناه من أول الأمر، وهو في كلا الغزلين عذب جميل تحس فيه رقة الهوى وشكواه، وقد تحدثنا عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>