وغرباً. حقاً إنها لم تكن مكروبات كبيرة، ولكنها كانت مخلوقات صغيرة تجري فيها الحياة على كل حال. وتمتم اسبلنزاني لنفسه:(إنها تسبح كالسمك! إنها صغيرة كالنمل!). وغاب في التفكر ثم قال:(إن هذه القبابات الحمت الحاماً فما كان لشيء أن يستطيع دخولها من الهواء. ومع هذا أجد تلك المخلوقات الصغيرة فيها. لا شك أنها مخلوقات كانت موجودة في المرق، فلم يكف لقتلها اغلاء الماء دقائق قليل)
وذهب بأيدٍ راجفة إلى صف القبابات التي سدها بالفلين - كما فعل خصيمه (نيدم) - ونزع سدادها واحدة بعد أخرى. وما هي إلا ثوان حتى غاص بأنبوبته في مرقها، وما هي إلا ثوان أخرى حتى حدق بعدسته في قطرات منها. وإذا به يثور ويصخب ويقوم عن كرسيه فيمسك بكراسة قديمة، فيكتب فيها على عجل ملاحظات مختصرة بخط كنبش الدجاج، لو استطعت قراءته لوجدت معناه أن إحدى هذه القبابات ذات السداد كانت تتنغش وتموج بالأحياء! حتى القبابات التي أغليت ساعة كاملة كانت (كالبحيرة تعج بالسمك الصغير والحوت الكبير). وصاح يقول:(معنى كل هذا أن هذا (نيدم) جاء بتلك الأحياء التي طنطن بها من الهواء. وهذه نتيجة خطيرة في ذاتها ولكن أخطر منها هذه الأحياء يصمد بعضها للماء المغلي زمناً. فلا بد لقتله من إغلائه ساعة أو نحوها)
كان هذا اليوم لاسبلنزاني من الأيام الضخمة العظيمة، وللدنيا من الأيام المذكورة المشهورة، ولو اسبلنزاني لم يكن يدرك كبره وخطره حق الإدراك. إنه أثبت إثباتاً قاطعاً أن نظرية (نيدم) نظرية باطلة، وأن الحيوانات لا تنشأ في هذه الدنيا الجارية من العدم. وأثبت ذلك بنفس اليقين الذي أثبت به (ريدي) العظيم أن الزعم بأن الذباب ينشأ من ذات نفسه في اللحم زعم فاسد وحسبان خاطئ. وفعل اسبلنزاني فوق هذا، فقد خلص علم المكروب من ضياع محقق، وانتشله من خرافة كادت تؤدي به إلى النسيان فالعدم، فان العلميين كانوا قد بدأوا يعتبرون علم المكروب صنفاً من العرفان المدلس الذي لا يتقبل قواعد العلم الصحيحة وطرائقه المستقيمة
واستدعى اسبلنزاني في هياجه أخاه نقولا وأخته كذاك، ليخبرهما بتجربته الرائعة. وذهب بعيون واسعة إلى تلاميذه يخبرهما بأن الحياة لا تنتج إلا عن حياة، وأن كل حي لا بد له من أب، حتى تلك الأحياء الصغيرة الحقيرة! إلحم قبابتك بما فيها من المرق فلن يدخل إليها