في جوانحهم ينابيع البيان، وتتفتح سرائرهم عن أزهار الشعر. ففي كل قلب ربيع، ومن كل قصيدة روض، وفي كل معنى وردة، وعلى كل قافية نغمة
هكذا تفيض الحياة على الجماد والنبات والحيوان، وينتظم الجمال الخليقة والإنسان، كأنما العالم كله فكرة واحدة، أو قصيدة خالدة!
ذلكم الربيع الذي فتن الناس فافتنوا في وصفه، والإبانة عن محاسنه، والإشادة بذكره، والاحتفال بمقدمه. فاتخذته الأمم على اختلاف المذاهب عيداً، ومجدته بشتى الوسائل تمجيداً، وأولع به الشعراء في كل قبيل، ولم يخل من المفتونين به جيل
والناس في مصر ربيع دائم، من أرضهم وسمائهم، وزرعهم ونيلهم. فهم لا يحسون مقدم الربيع إلا قليلاً. ولو أنهم عرفوا كلب الشتاء، وانجماد الهواء، وقشعريرة الأرض، وقسوة السماء، ورأوا كيف تموت الطبيعة في زمن، وتلتف من الثلج في كفن
وقد غاب في الثلج الربيع وحسنه ... كما اكتن في بيض فراخ الطواوس
ثم شهدوا كيف يأتي الربيع فيكهرب كل ذرة، ويفيض كل عين ثرة، ويخلق كل نضرة، لاحتفوا بالربيع احتفاء غيرهم، وعرفوا فيه النشور بعد الموت.
على أن للربيع في مصر دقائق يسر لها الإنسان، وشيات أبصرها الشعراء في كل زمان
جاء الربيع فليت في كل قلب من صفائه قطرة، وفي كل نفس من جماله زهرة، وفي كل خلق من عبيره نفخة، لتعمر النفوس بمعاني الحياة، وتستنير بأشعة الجمال، ويسكن الناس إلى السعادة حيناً، وينسوا أساليب العداوة والبغضاء زمناً. وليت الناس جروا مع الحياة طلقها، ولم يفسدوا على الطبيعة خلقها، فأنبت الربيع في كل قسوة رحمة، وفي كل يأس أملاً، وفي كل حزن سروراً، وفي كل ظلام نوراً، ليتهم اجتمعوا على ورد الحياة متصافين، كما ترف على جداول الربيع الرياحين
(ولكن الإنسان قد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالماً بذاته، فكان نشوزاً في نغم الكون ونفوراً في نظام العالم! فلو أنه اقتصد في تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لا تحد الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة في جسمه، وإشراق الصفاء في نفسه، وانبثاق الحب في قلبه، وأحسن أنه هو في وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!)