وعمل (بيفون) و (نيدم) سوياً بتوافق تام، وفي صفاء لا يشوبه كدر، واقتسما العمل: أما (بيفون) فكان يلبس الثياب البنفسجية البديعة، والأكمام ذات الدانتلة النادرة العزيزة، فلم يكن ينتظر منه أن يوسخها على نضد المعامل القذرة بما عليها من تراب وزجاج منثور، ومرق مراق من وعاء مكسور، لذلك اختص بالتفكير وبالكتابة، وقام (نيدم) بالتجريب. واعتزم الاثنان أن يخترعا نظرية ضخمة يفسران بها كيف تنشأ الحياة، وفلسفة رفيعة عميقة يفهمها مع ذلك كل إنسان، فلسفة يجتمع عليها المؤمنون البررة والملاحدة السخرة على السواء. وأخرجا نظرية أهملت الحقائق التي استخرجها (اسبلنزاني) كل الإهمال، وتعامت عنها كل التعامي! ولكن ما ضرر هذا؟ ألم تخرج هذه النظرية من رأس (بيفون) العظيم؟ أليس في عظم هذا الرأس ما يبرر نقض كل حقيقة مهما كان مكانها من اليقين؟
يقول نيدم للكونت النبيل:(سيدي اللورد الجليل! ما الأسباب التي تنشأ عنها تلك الحيوانات الصغيرة في مرق الضأن برغم غليانها؟)
فيحتدم عقل بيفون، ويدور في الطبقات العليا من الخيال الرفيع دوراناً رشيقاً بديعاً، ثم يهبط إلى الأرض ويجيب:(عزيزي الأب نيدم، لقد كشفت كشفاً خطيراً، لقد وضعت اصبعك على أصل الوجود، لقد رفعت الغطاء في مرق لحمك عن تلك القوة التي تخلق الحياة). نعم لابد أن تكون قوة، كل شيء قوة!
فيقول الأب نيدم: إذن فلنسمها: القوة النباتية، أي لوردي العظيم).
فيجيب بيفون:(اسم مناسب جميل، أيها الأب الجليل)
ثم يلبس الكونت أحسن ثيابه ويذهب إلى مكتبه، وقد تنضح جوه بأطيب العطور، ويبدأ يكتب عن عجائب القدرة النباتية التي تستطيع أن تخلق في مرق اللحم ونقيع الحب حيوانات صغيرة - يكتب هذا لا من ملاحظات دونها عن تجارب في المعمل شهد بها الزجاج والعدس واللهب، بل يكتبها من عقله الخصيب
وما هي إلا أيام معدودات حتى كنت تسمع (بالقوة النباتية) على كل لسان، يتحدث بها كل إنسان، وتتفسر بها كل الأمور، فالزنادقة أحلوها محل الله، ورجال الكنيسة قالوا إنها أمضى أسلحة الله. وشاعت في الناس كما تشيع الأغاني، وانتقلت بينهم انتقال الحكاية المليحة التي لا تتصل بالآداب اتصالاً وثيقاً، أو كما نتحدث اليوم عن النظرية النسبية