ورأيتني في قوم لا أعرف منهم أحداً، قد اجتمعوا جماهير، وسمعت قائلاً منهم يقول:(الساعة يمر مولانا العالي) فقلت لمن يليني: (من يكون مولانا العالي؟) قال: (أو أنت منهم؟) قلت (ممن؟) فألهاه عن جوابي تشوف الناس وانصرافهم إلى رجل أقبل راكباً حماراً أشهب؟ فصاحوا:(القمر القمر) ورفع الرجل الذي يناكبني صوته يقول: (البركات والعظمات لك يا مولانا العالي!)
قلت:(إنا لله! لقد وقعت في قوم من الزنادقة، يعارضون (التحيات والصلوات والطيبات لله)؛ ثم مر صاحب الحمار بحذائي، وغمزه الرجل علي، فقال:(ما بالك لا تقول مثله؟) قلت: أعوذ باله من كفر بعد إيمان؛ فكأنما أراد أن يلطمني فرفع يده، فصحت فيه:(كما أنت ويلك وإلا قبضت عليك وأسلمتك للبوليس، وشكوتك إلى النيابة، ورفعتك إلى محكمة الجنح!)
قال:(ماذا أسمع؟ الرجل مجنون فخذوه!) وأحاط بي جماعة منهم، ولكنه ترجل عن حماره واخذ بيدي ومشينا، فقلت:(من أنت يا هذا؟) قال: (أراك من غير هذا البلد؛ أما تعرف الحاكم بأمر الله؟ فأنا هو.) قلت: (انظر ويحك ما تقول؛ فما أظنك إلا ممروراً؛ لقد كتبت أمس كتاباً إلى مجلة (الرسالة) أرخته ١٣ ذي الحجة سنة ١٣٥٣ و١٨ من مارس سنة ١٩٣٥، وأرسلت به مقالة (الخروفين. . .)
قال: ماذا اسمع؟ نحن الآن فيسنة ٣٩٥؛ فالرجل مجنون، أو لا فأنت أيها الرجل من معجزاتي. لقد جئت بك من التاريخ وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي. . .!)
قلت:(فإني أعرف أعمالك إلى أن قتلت في سنة ٤١١. . .!)
قال:(أو إله أنت، فتخلق ست عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدت من أفنك وغباوتك تفسد على دعوى المعجزة!)
وهاج الصداع في رأسي، وبلغ سوء الهضم حده، واشتبكت سينات إيسيس وأتوبيس الخ بسين إبليس، ومرت بين كل هذا حوادث الطاغية المعتوه المتجبر، فرأيته يبتدع في كل وقت بدعاً، ويخترع أحكاماً يكره الناس على أن يعملوا بها، ويعاقبهم على الخروج منها ثم