للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جاءت من أجله؛ لأنها مهما حصلت من فروع العلم وجوانب الأخلاق؛ ومهما أسرفت في التحصيل فهي قاصرة مقصرة، وكيف سبيلها إلى ذلك والعلوم لا تنتهي عند حد، وحتى إن أمكن تحصيلها فلا تكفي لها مدة الحياة على قصرها؛ ولكن ليكن هذا فليس الفشل فيما نظن مما ينتقص من نبل الغاية المقصودة ويحط من شرف الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية.

قال صاحب: لقد زعمت أو زعم فيلسوفك ابن سينا أن الروح إنما هبطت فسرت في البدن ففارقته وعادت أدراجها، والله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، إذا كان ذلك لم يكن لهواً ولا عبثاً؛ فلأي شيء هبطت فتعلقت بالجثمان لتتخذه وسيلة إلى الكمال على شرط أن تكون من أصحاب الفضيلة والخير. قال: وإن كانت الروح من الملأ الأعلى فكيف تكون ناقصة وقد حدثتني في صدر الحديث أن ذلك الملأ مجردٌ مطلقٌ كاملٌ كمالاً محضاً، وأنه خير خالص، كما حدثتني إلى جانب ذلك أن عالمنا هذا شر - أو على أكثر تقدير مزيج بين الخير والشر فما قولك الآن إن الروح قد هبطت من ملأها الأعلى إلى هذه الأرض تنشد عن طريق الكمال؟! وهل يكون الشر وسيلة إلى الخير والكمال؟ لعمري لو كانت العناصر المجردة لا يتم كمالها إلا إذا اتصلت بالمادة فما أوجب أن يهبط عالم الأرواح كله ليمتزج بالأرض ومادتها؟ قلت: جوابك يا صاحبي في هذا البيت الآتي:

وهي التي قطَعَ الزمانُ طريقَها ... حتى لقد غَرُبَتْ بغير المطلع

فقد كان مراد النفس وأملها أن تبلغ حد الكمال بما يرتسم في صفحتها من الصور العقلية، لكن الزمان لم يمهلها وا أسفاه! فقطع عليها السبيل وصدها عما كانت تسير نحوه، وذلك بإهلاكه للبدن وهو أداتها في تحقيق رغبتها، ولكنها إلا تكن قد ظفرت بكل شيء، فهي لم تفقد كل شيء، لأنها لم تغرب - حين غربت - ساذجةً جاهلة كما أشرقت أول الأمر بل عرفت الكمال وعرفت النعيم الذي يكون لها لو بلغت هذا الكمال، وكفاها بهذه المعرفة حافزاً قد يدفعها إلى متابعة السير يوماً آخر.

فكأنه برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع

أنعم برد جواب ما أنا فاحص ... عنه فنار العلم ذات تشعشع

ولكن فيلسوفنا الشاعر يعود فيوافقك يا صديقي إلى حد كبير، إن النفس عند فراقها للبدن تكون في الحقيقة كأنها لم تفد شيئاً وكأنها لم تصحب البدن قط، وما أسرع ما انقضى زمن

<<  <  ج:
ص:  >  >>