ما مصر؟ إن اختلاطنا بالروح العربية هذا الاختلاط العجيب كاد ينسينا إن لنا روحاً خاصة تنبض نبضات ضعيفة تثقل تحت ثقل تلك الروح الأخرى الغالبة. وإن أول واجب عليكم لنا استخراج أحد العنصرين من الآخر. حتى إذا ما تم تمييز الروحين إحداهما من الأخرى كان لنا أن نأخذ أحسن ما عندهما، وكان لكم أن تقولوا لنا:(ها نحن أولاء أنرنا لكم الطريق إلى أنفسكم فسيروا) لا بد لنا إذن أن نعرف ما المصري وما العربي؟ هذا السؤال ألقيته على نفسي منذ ست سنوات إذ كنت ادرس الفنين المصري والإغريقي. وكانت المسالة عندي وقتئذ: ما المصري وما الإغريقي؟ وأذكر أني أثرت هذه المسألة أمام بعض أصدقائي في حي (مونبارناس)، أذكر أني لخصت لهم الفرق بين العقليتين بمثل واحد في فن النحت سائلاً: ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم كل شيء مستتر خفي عند المصريين، وعار جلي عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة. كل شيء عند المصريين مستتر كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق. في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل. نظرةٌ أخرى في أسلوب النحت تدعم هذا الكلام. أن المثّال المصري لا يعنيه جمال الجسد ولا جمال الطبيعة من حيث هي شكل ظاهر، إنما تعنيه الفكرة، انه يستنطق الحجر كلاماً وأفكاراً وعقائد. على انه يشعر مع ذلك بالتناسق الداخلي، يشعر بالقوانين المستترة التي تسيطر على الأشكال، يشعر بالهندسة غير المنظورة التي تربط كل شيء بكل شيء، يشعر بالكل في الجزء، وبالجزء في الكل، وتلك أولى علامات الوعي في الخلق والبناء؛ هذا كله يحسه الفنان المصري لأن له بصيرة غريزية أو مدبرة تنفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة لتحيط بقوانينها المستترة، فنان عجيب لا يصرفه الجمال الظاهر للأشياء عن الجمال الباطن. إنه يريد أن يصور روح الأشكال لا أجسامها، وما روح الشكل إلا القانون العام الأعلى المستتر خلفه؛ إن ولع المصريين بالقوانين الخفية لشيء يبلغ حد المرض، مرض إلهي، لو أن الآلهة تمرض لكان هذا مرضها: فرط البحث عن القانون! كل شئ في مصر إلهي، لأن مصر التي منحتها الطبيعة الخير واليسر وسهولة العيش وكفتها مشقة الإجهاد في سبيل المادة استلقت منذ الأزل تتأمل ما وراء المادة. . حظها في هذا حظ الهند: أمة