ولكني أحسنت التدبير وجودت الحيلة. وما معنى أن أطلب شيئاً، وأروح أنحسر وأتلهف وأقطع قلبي عليه؟ هذا كلام فارغ! والطلب يقتضي السعي، فأما أن يوافق المرء وإلا فليقصر إذا عزه المطلب، ولكنها المدنية تحيل النفوس كالورق المبلول، فمن كان يريغ القوة فليجفف نفسه قليلاً، ولينأ بها عنا الترف والرقة
وقد قرأت للكاتب الإنجليزي هـ. ج. ولز، قصة لا أذكر أسمها، ولكني أذكر أنه يتخيل أن البطل انتقل إلى كوكب آخر أرقى من هذه الأرض، وأعلى في درجات الحضارة وأسبق إليها ببضعة آلاف من السنين، فكان أن ظهرت الأنفلونزة، ففشت بسرعة ولم يدرِ سكان هذا الكوكب كيف يتقونها أو يصدونها، لأن جرثومتها لا تجد من أجسامهم مقاومة، فأخذوا يعزلون المصابين بالطيارات
وهذا فعل المدينة لأنها ترمي إلى التسهيل والتيسير على الإنسان والتخفيف عنه، ورفع مؤونة الكد والتعب، وهذا مفضٍ إلى التطري والضعف. وقد قيل للمشترع الإسبرطي مرة:(ألا تبني لنا سوراً يقينا الغارات المفاجئة؟)
فقال:(كلا. خير سور ما كان من اللحم والدم)
يريد أن يقول إن بناء السور من الحجر يغري بالاستنامة والاطمئنان ويؤدي إلى الضعف، أما إذا بقيت المدينة بلا سور يحميها فإن هذا يبعث على تنبه أهلها ويقظتهم ويدفعهم إلى الاستعداد الدائم، فلا تضعف نفوسهم ولا تذهب رجولتهم. وهذا صحيح. وقس على ذلك في سائر الأمور.