وممتلئة، ورجالاً ونساء قد تحلقوا حول المائدة، ذراعاً إلى ذراع، وامرأة بين كل رجلين. . . ولكن يداً واحدة لا تمتد إلى شيء، وفماً واحداً لا ينبس بكلمة. . .
وأبصر رجلاً يهتز في موضعه هزة خفية وهو يتحدث إلى نفسه: كيف يصنع وقد فقد كل ما كان معه من نقد، إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه، لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، وهو قضاء غير مشروع ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة؛ وقالت له نفسه: ما أنت والقمار؟ شد ما نهيتك فلم تنته! الآن فذُق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك من بعد ألا تستمع إلى إغواء الشيطان. . .
واختلج إبليس حين ذكر أسمه اختلاجه كادت تنم عليه؛ وهمّ أن ينهض، لولا أن أقبل النادل عليه بالطعام
وشُغل إبليس لحظة بالأكل، يزدرد اللقمة بعد اللقمة يكاد لا يحرّك بها فكيه؛ وعرف لأوّل ما ذاق الطعام - لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان. . .!
وعاد ينظر إلى وجوه الناس وضمائرهم، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقاً في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه شتى ألوان الندم والخزي والحياء. . . ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: معذرة يا صحابتي، فإنما هو مالكم ليس لي حق منه في شيء، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما أردت السلوة وإزجاء الفراغ. وعضّ على شفته واحمر وجهه، إذ كان يعلم أنه يكذب في اعتذاره؛ فما كان ليقامر إلا مؤملاً أن يربح، وما كان ليربح مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حين ضمّ يديه على المال أحسّ كأنه يقبض على جمر؛ ورفت به سانحة من الخير، فتعفف أن يأكل مال الناس فخرج عنه لأهله. . .!
ونظر الرجل إلى يمين، فإذا صاحبته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس:
(أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟)
قالت المرأة:(عفواً ليس لي شأن بذاك، ولكن أمراً يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار. . .!)
وهبت واقفة، فقال الرجل:(خير. . . .! أتأذنين لي أن أصحبك؟)