للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قال الأستاذ الإمام وهو ينفض باسماً ما حثوه على عطفيه من الظنون والتهم: لا صلاح للدين إلا بصلاح الأزهر، ولا قيامة للدنيا إلا بقيامة أهله! ثم استعان على خصومه بالإحسان والنصيحة والصبر حتى آمن من آمن، وهادن من هادن، فوضع يمناه في أيديهم، ويسراه في أيدي أولئك الذين فتنهم الغرب فانغضوا رءوسهم إلى مدينة الإسلام، وذووا وجوههم عن ثقافة العرب، يحاول أن يصل بين الثقافتين، ويوفق بين العقليتين، ويجعل من هؤلاء وهؤلاء وحدة متسقة الفكر، متفقة الهوى، متحدة الغرض، تؤلف بين الدين والعلم، وتقرب بين الشرق والغرب، وتصل بين الماضي والحاضر؛ فنجح على قدر ما ينجح الأنبياء والمصلحون في إبان الدعوة، يهيئون الأرض في رجف من الخصومة، ويبذرون البذر في عصف من المعارضة، ثم ينفثون في اتباعهم القليلين المخلصين أرواحهم الخالقة وقواهم الخارقة، ليكونوا من بعدهم أوصياء على الغراس، وشهوداً على الناس، وأدلاء على المحجة

لا ريب أن الإمام محمداً كان من أولئك الأعلام المصطفين الذين يوضح الله بهم طريق الإنسانية من قرن إلى قرن؛ وأخص ما تميزهم به الطبيعة متانة الخلق، وصلابة الرجولة، وشدة الأسر، وقوة الحيوية، وحدة الذهن، وصفاء الملكة. ورث عن أبيه وثاقة التركيب، وشجاعة القلب، فشب نابياً على الضعف، أبياً على السكون؛ يريد أبوه أن يكون تلميذاً كلداته في المكتب، فيأبى هو إلا أن يكون زارعاً كأخوته في الحقل! ويرسله أبوه إلى المعهد الأحمدي يطلب العلم، فيفر منه إلى مدارج السبل يطلب الفلاحة! لان حفظة القران وحملة الفقه كانوا موضع العطف من القلوب لقلة الكسب وضعف الحيلة؛ وحيويته تأنف الخمود، وحريته تأبى القيود، ورجولته تعاف الشفقة

ثم لجأ إلى الشيخ درويش خال أبيه، وهو صوفي عالم من أهل البحيرة، سار في الأرض حتى بلغ طرابلس الغرب، فأخذ الشريعة والطريقة على السيد محمد المدني؛ والتصوف في المغرب يقوم على ذكر الله بالاستحضار، وتلاوة القران بالاستذكار، ورياضة النفس بالتأمل؛ فأخذ يروض جموح طبعه بالصلاة، ويلطف حميا شبابه بالذكر، ويطفئ غليل قلبه بالدرس، حتى فتح السبيل بين نفسه وبين الوجود الأبدي والكمال المطلق

ثم اتصل بالسيد جمال الدين فتولى عقله يثقفه بالمنطق، ويكلمه بالحكمة ويقويه بالملاحظة؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>