مظاهر الفناء، أو مصرع بطل من الأبطال، تراه يشعر بان حياة الإرادة الباقية لم تطفأ بموت البطل. إن الرجل الديونونيزوسي ينقذ نفسه من التشاؤم لأنه يبصر خلود الإرادة، والحادثات تمر والتقلبات تستمر؛ هو يقول للحياة: أنا أريدك! لأنك أنت الحياة الخالدة
وبهذين المذهبين يرى نيتشه أن اليونان قد قهروا التشاؤم، وجعلوا الحياة جميلة زاهية؛ ويرى أن التفاؤل اليوناني لم يكن وليد الخفة والعبث، أو تجاهل لما يغمر الوجود من شقاء والم، ولكنه تفاؤل تولد من مثل أعلى وغاية أسمى؛ والمؤرخ الذي يستقرأ هذه التأثيرات في مطلع تاريخهم يتبين له أن القوم عرفوا الألم كما عرفناه؛ وتذوقوا الشقاء كما تذوقناه
سأل ملك (ميدا) الفيلسوف (سيلين) ما عساك تجد خير شيء للإنسان؟ فأجاب الفيلسوف:(يا ذرية التعس والألم، وأبناء المصادفات والمتاعب! لماذا تنقمون علي إذا جئتكم بما لا ترتاح له اذانكم؟ إن الخير الذي لا خير بعده هو إلا تكون - أيها الإنسان - مولوداً، وإلا تكون موجوداً، وإلا تصير شيئاً؛ والخير العاجل لك إن تلقى مصرعك الآن!) فهذا الألم المنبعث من أعماق الروح الشاعرة بالأوجاع والشقاء الغامر الأرض، هو الذي أهاب باليونان ودعاهم إلى أن يكملوا معنى الحياة الناقصة بخلقهم آلهة هي آلهة جبال (أولمباوس)، هذه الإلهة هي نتيجة إبداع الروح (الأبولونية) وانتصارها. أرادوا أن يستنقذوا أرواحهم من حقيقة الوجود المروعة فعمدوا إلى خلق شعب من الإلهة وجملة أوهام طبقوها على الحياة التي يرونها صالحة للظهور؛ وهم مؤمنون بأن هذه الإلهة تعمل معهم على مجابهة التشاؤم. وهكذا لبست الحياة عندهم لباساً جديداً، وظهرت ظهوراً جديداً، وغدت جميلة في عيونهم لان إلهة جميلة تتصرف بها وتقبل بأقدارها؛ وهوميروس هو المثل الأعلى للروح الأبوبونية؛ ومقاطيعه وقصائده هي نشيد انتصار الحضارة اليونانية على سيئات الأجيال الغابرة، وهي التي خلقت هذه الروح التي تغلب اليونان بأوهامها وأخيلتها على كآبة الحياة الحقيقية وقبحها. وإزاء هذه البراعة الأبولونية نشأت البراعة (الديونيزوسية) أو براعة المأساة.