للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن فإذا جيفة العنز غير بعيد، فذببن عليها وإرتعين فيها وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات إنما يكون بتحويل باطنها لا بتحويل ظاهرها، وإن الإناء الأحر يريك الماء مُحمراً والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمةٍ كاملة من نزعات ماعزةٍ مأفونة، هي كمحاولة إستيلاد الفيل من الماعزة. . .!

قال كليلة: وأعلم يا دمنة، انه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة لما أخذها الله أخذ الذبابة.

قال دمنة: وكيف كان ذلك؟

قال: زعموا أن ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قُدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر لما كُتبتْ بها إلا كلمة سُخف.

ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة؛ وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على إن العالم فوضى لا نظام فيه، وإنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق عبثاً في عبث، ولا ريب إن الأنبياء قد كذبوا الناس؛ إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي (أنا) وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها. . .؟

ثم نظرت ليلةً في السماء، فأبصرت نجومها يتلألأن وبينها القمر؛ فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضي العالم وكذب الأديان وعبث المصادفات؛ فما الإيمان بعينه، إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي (أنا) ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير إلى السماء. . .؟

ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهاباً وجيئة حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها؛ فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره، كأنها تزاول عملاً؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقرة واكتفتا فيها تأكلان من شحمها فتعظمان سمها؛ والناس من

<<  <  ج:
ص:  >  >>