للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سحاب فمطر فأنهار، فجميع ما لذلك من أعمال باهرة، وقوى ساحرة، وأفعال عجيبة! أنظر يميناُ فأرى النيل، وأنظر يساراُ فأرى البحر، وقد عاد النيل إلى البحر بعد أن أتم دوريه، وأدى مهمته؛ قد خرج هذا العذب الفرات، من هذا الملح الأجاج، كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم! قد سلسلوا النيل فعدا عليه البحر فأغتصب مجراه، وأملح ماءه، ثم فكوا قيوده، فاسترد حقوقه، وأراد أن ينتقم من أبيه، فحاول أن يحتل شاطئه، ويحلي ماءه، ولكن يعكر صفاءه، ثم ندم على العقوق فتاب وأناب وإذا هما مؤتلفان، بينهما برزخ لا يبغيان

ثم تسطع الشمس، ووددت أن تكون مذكرة في اللغة العربية، كما هي مذكرة فيما أعرف من اللغة الأوربية، لأنها تتزوج الأرض فتولدها ما شئت من أشكال وألوان وذكور وإناث، وكأن أشعة الشمس خمر معتقة تشربها الأرض فتنتشي وتبتهج، وتمتلئ قوة ونشاطاُ وحركة

وتقع أشعتها على الطير فيسرح ويمرح ويتغنى، وتحل في قلب الإنسان فيهدأ روعه، ويذهب فزعه، ويطمئن إلى حياته، وتتحرك إرادته، وتنتعش آماله

دعني أتعر فالعراء على الساحل مباح، فأملأ جسمي بأشعتها، وأملأ شعوري ودمي بقوتها، وأملأ نفسي بعظمتها وسحرها.

ومشيت إلى قلعة في رأس البر كنت آنس بها قديماُ، وكان في كل حجر من أحجارها صفحة من العزة القومية، والحمية الوطنية؛ أقامتها الأمة يوم كانت تشعر بنفسها، وتدافع بنفسها عن كيانها، وتحس بتبعاتها، وتدبر شؤونها، وتدير أمورها، كما يتراءى لها - فرأيتها وقد عدا عليها الزمان، وعلاها البلى ونقض أحجارها، وليس من يعتز بها فيقيم أنقاضها، ورأيت بها (مدفعاُ) قد هزأ به الرمل فغطاه، وسخر به الصدأ فعلاه، دفن كما يدفن عزيز أرداه الزمان بسهامه، وذل كما يذل السيد توالى عليه الدهر بأحداثه! ورأيتهم أقاموا في وسطها صهريجاُ يخزن الماء لرأس البر؛ فقلت: سبحانك ربي، جعلت من مستودع النار ماء، كما جعلت من الشجر الأخضر ناراُ! لقد كان مكانك رمز القوة واصبح رمزاُ الرقة، وكان بك جن يقذفون بالنار فبدلت بهم ملائكة يوزعون الرحمة، وكان بك دم يغلي، فأحاله الزمان القاهر زلالاُ بارداُ، وما أدرى ماذا جاش بنفسي فدمعت عيني

وقالوا قد جُننتَ فقلتُ كلا ... وربي ما جننتُ وما انتشيت

ولكني ظُلمتُ فكدت أبكي ... من الظُّلمِ المبيّن أو بكيتُ

<<  <  ج:
ص:  >  >>